المشرقُ والتوحيدُ
 تاريخ النشر : الجمعة ٢٠ يناير ٢٠١٢
عبدالله خليفة
لعبت سيطرةُ البدو الموحِّدين في شمال افريقيا على تكوين التوحد، ولم تكن ثمة حضارات قديمة مكرسة للتنوع التفكيكي الواسع، بل هي هجراتٌ من الجنوبِ في أغلبها لا تستطيع أن تجتاز بسهولة حاجزي الغابات المدارية والصحراء الكبرى. فإذا جاء الاحتكاكُ من الشمال فهو مغذٍّ للحضارة كما قام بذلك الإغريقُ والرومانُ والغرب المعاصر.
ومن هنا كان أثر المسلمين البدو القادمين من الجزيرة العربية في اخوتهم البدو في شمال افريقيا المماثلين لهم مفيداً، فقد أعطوهم دفعةً حضارية مما اكتسبوهُ من حضاراتِ المشرق القديمة ولكن في صورةٍ توحيدية، ملغيةً للتفكك، وما الأصنام وعبادة الطغاة وعبادة رؤساء العشائر إلا عبادة للأوثان الاجتماعية الكثيرة المفتتة.
ولكن العرب لم يستطيعوا أن يحققوا هذه الوحدة في جيرانهم المشرقيين وفي البلدان التي هيمنوا عليها، إلا في فترة وجيزة، ثم تصاعدت الأديانُ الوثنية والمشاعر القومية والاختلافات الاجتماعية إلى درجة هائلة.
المشرق ذو جذور عتيقة في الحضارة، وما القوميات كما تتبدى في أقليات شعوب قديمة، والأديان المندثرة الجذور والباقية، سوى علامات رمزية لتلك الحضارات التي ملأت الأرضَ جيوشاً وهيمنة وآثاراً ثم اختفت: مثل الآشوريين والبابليين والسومريين والكنعانيين، ولكن الكثير من القوميات بقيت بقبول ديانة المسلمين ردحاً من الزمن بصيغتِها البدوية الجزيرية التوحيدية ثم بمزجها بدياناتهم القديمة ووضع هوياتهم القومية في صلبها.
وليس غريباً أن تحصل الشعارات القومية المتطرفة مستوحية مبادئ الفاشيين والنازيين على أرضية داخل المشرق العربي بشكل كبير، لأنها رغبات توحيدية تستخدمُ القوةَ الجماهيريةَ العنيفة من أجل جعل الأنظمة المُفكَّكة تتوحد وتنصهرُ بطرقِ المسلمين الأوائل كذلك، وبأشكال تحديثية شمولية حادة.
لم تستطع الخلافة العباسية أن تصهر المكونات الطبقية و(القومية) أي تلك الجذور والنزعات القديمة المعبرة عن قومياتٍ وعناصرَ مختلفةٍ عن العرب وعن المسلمين كذلك، لغيابِ الشروط الموضوعية من أسلوبِ إنتاجٍ حديث وطبقاتٍ متوسطة وعاملة موحَّدة.
وفي العصر الحديث قامت الفئاتُ المسيطرةُ على الجيوش بذات المحاولات التوحيدية الباطشة، مستغلة عناصر فكرية فاشية غربية، وبدا ذلك على الجانب العربي والجانب الفارسي، وكان الجانب العربي أسرع في دوله المتعددة، التي أمكن فيها للنخبِ العسكريةِ في هذا البلد أو ذاك أن تقفز للسلطات، وكان إسراعُ العناصر القومية قبل الدينية يمثل تحركا مدنياً، مما جعله يقارب الحداثة الغربية لكن من خلال الفاشية، ولهذا فقد حافظ على المكونات ما قبل الرأسمالية كالقبليةِ العتيقة ولم يستطع أن يقارب الثورة الوطنية الديمقراطية عبر تحرر الفلاحين والنساء ونشر الثقافة الديمقراطية العقلانية.
استخدامهُ للقوة عبر الجيوش والمنظمات الجماهيرية القومية المتعصبة ورفضه لقوانين التطور الاجتماعي، واندماجه برأسماليات الدول الشمولية الاستغلالية للموارد العامة والجمهور، أوجد هوات انفصالية بينه وبين الشعوب راحت التنظيماتُ المذهبيةُ تستغلها وتملأ الفراغَ فيها، فعبر نمو أفكارِها عن أزمةِ البُنى الاجتماعية الشمولية.
وتأخر الفرس والأكراد والعديد من القوميات الآسيوية الأخرى عن اللحاق بنماذج العرب القومية تلك لعيشهم في مناطق جبلية وريفية غارقة في الانفصال عن التقدم، وكان عجزُ الفرس يرتكزُ على تعددِ القوميات داخل إيران الحديثة، وما كان الطرحُ القومي العلماني سوى أن يفككَ الدولةَ التي عجزوا عن توحيدها بشكل ديمقراطي أو قومي مستنير، ولهذا كان نمو المذهبية المحافظة لديهم أسرع في الاستخدام السياسي القومي وكشكلٍ ايديولوجي للدولةِ المُفكَكة المضمونِ، ولكن الموحَّدةَ عبرَ مذهبٍ غيرِ معترفٍ به عند الجميع.
وفي الوقت الذي يعاني هذا الشكلُ الإيديولوجي المذهبي بسبب رفضه العناصر الديمقراطية الغربية من أزمةِ سيطرةٍ حتى عند عامة الفرس ومن ثم عند الشعوب الإيرانية الأخرى، ينهضُ الشكلُ المذهبي الآخر عند الشعوب العربية لاقترابه من عناصر ديمقراطية لدى الغرب، مما يبرز تناقضاً من نوعٍ جديد.
تتبدى هنا العواملُ الايديولوجيةُ السطحيةُ في الصراعات الاجتماعية السياسية، أي استخدام المذاهب وبعض العناصر التحديثية الغربية أو رفضها، لغايات سياسية مرحلية، وعدم القدرة على الانتماء السياسي للحداثة الغربية العالمية بكليتها.
هذا يعبرُ عن أنظمةٍ وبُنى اجتماعية تقليدية محافظة، خاصة في الهياكل الحكومية السياسية وعند الجماهير العامية، فتضيع عقودٌ من التاريخ بلا تحديث وبلا تغييرات حقيقية عند الجمهور الأساسي الفلاحين والحرفيين والعمال اليدويين، فلم ينتقل هذا الجمهور للصناعات الكبرى الحديثة وبقيت الأرياف في جمودها المحافظ، أو راحت تنزف القوى السكانية المأزومة من غياب الأعمال إلى المدن.
الصيغ المطروحة الآن لتحولات الدول العربية عبر الرساميل المالية والعقارية والدخول الموسع للعولمة من الجانب التابع وغير الصناعي التقني المتطور، سوف تعيدُ أزمات البُنى المحافظة والمتخلفة السابقة نفسها، مما يؤدي إلى تفكك الدول العربية من الداخل عبر ظهور فئات إستغلالية شديدة الاهتمام بالأرباح السريعة، ومن هنا فإن أحكام الفقه التقليدية تتوافق مع رساميل غير محولة للبُنى الاجتماعية، وغير قادرة على إنشاء القطاعات العامة الصناعية العلمية الكبرى التي تعني التضحيات الجسام، فهي تركضُ للثراء السريع وعدم تغيير العامة العائشة في العصر التقليدي الماضوي لاتزال وهي التي استخدمتْ في الثورات والأصوات
.
مقالات أخرى...
- الصراعُ الاجتماعي مجدداً - (19 يناير 2012)
- النظر إلى جهةٍ واحدة - (18 يناير 2012)
- ثقافةٌ تحبو على الرمال المتوهجة - (17 يناير 2012)
- الثورة السورية.. تفاقمُ الصراعِ وغيابُ الحلِ - (16 يناير 2012)
- سببياتُ انهيارِ الوعي التحديثي - (15 يناير 2012)
- الأفكارُ والمراحل التاريخية - (14 يناير 2012)
- صناعةُ الزعامةِ في المرحلةِ الطائفية - (13 يناير 2012)
- خلاصة الأنواع الأدبية العربية(٢-٢) - (12 يناير 2012)
- خلاصة الأنواعِ الأدبية العربية (١-٢) - (11 يناير 2012)