الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٥٦ - السبت ٢١ يناير ٢٠١٢ م، الموافق ٢٧ صفر ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

قضايا و آراء

من مفكرة سفير عربي في اليابان

الربيع العربي والثورة الإيرانية (٢)





يبدو أن الأوضاع في منطقة الخليج العربي أخذت منحى تطورات جديدة، بعد الإنذارات الإيرانية بغلق مضيق هرمز، ورجوع البوارج الأمريكية إلى مياه الخليج العربي، كما سيكون للإسلام السياسي دور مهم في التطورات المستقبلية لإرهاصات ثورات ما يسمى الربيع العربي، وعلى قياداتها مسئولية القرار في اختيار نموذج لنظام حكم معاصر، يحقق لشعوب بلادها التنمية الاجتماعية والاقتصادية والروحية، وهي أمام نموذجين للاستفادة منهما لتطوير تجربتها العربية: هما النموذج الثوري الإيراني، والنموذج الإصلاحي التركي. وهنا سنكمل مناقشة التجربة الإيرانية، لنكرر طرح الأسئلة التالية: هل هناك بوادر حرب جديدة بين الغرب وإيران؟ وكيف ستكون نتائجها على مجتمع العولمة الكبير؟ وما السبب وراء تكرار الحروب المزمنة في الشرق الأوسط؟ ولماذا يصر النظام الإيراني على تصدير ثورته للخارج بالقوة؟ ألم تفشل عملية تصدير الثورات بالقوة في القرن العشرين، بل أدت إلى إفلاس دولها، وانهيارها؟ أليس الأسلوب المعاصر للتصدير الديمقراطي لتجربة بلد ما، هو القوة الناعمة، بعد إعجاب شعوب العالم بنجاحاتها في تحقيق الحرية، والرخاء، والسعادة، والأمان، لشعوبها؟ ولو عاش الامام الخميني، رحمه الله، هل سيعتبر الجمهورية الإسلامية نموذجا لثورات الربيع العربي؟ أم سيفضل النموذج التركي للإصلاحات الدنيوية؟ وهل سيقبل بأن يدير شئون دولة معاصرة القيادات الدينية؟

خير من درس التاريخ المعاصر لمنطقة الشرق الأوسط، واهتم بدراسة الثورة الإيرانية بتعمق، هي المفكرة والبروفيسورة الغربية، روبن وايت، وقد جمعت نتائج دراساتها المستفيضة في كتابها: الأحلام والظلال، معضلة الثورات في الشرق الأوسط، ولنكمل هنا مناقشتها الثورة الإيرانية، حيث عرضت توقعات الإمام الخميني عن المجتمع الجديد، الذي وصفه في مقابلة مع صحيفة دير شبيجل، الألمانية، في عام ١٩٧٨، بقوله: «مجتمعنا المستقبلي سيكون مستقبلا حرا، وسيقضي على جميع آليات القمع، والوحشية، والفرض».

وقد عانت الثورة الإيرانية، منذ البداية، صراعات مختلف القوى الوطنية، واستاء الإمام الخميني، بالأخص من صراعات بعض رجال الدين السياسيين على السلطة، ووبخهم بقوله: «توقفوا عن عض بعضكم بعضا، كالعقارب». وحينما تفاقمت نزاعاتهم على السلطة، زاد انتقاده لهم بالقول: «زرع النزاعات بين علماء الدين من أسوأ الذنوب». فلم يكن راضيا، رحمه الله، بأي دور لرجال الدين في السلطة، لإيمانه بأن إغراءات السلطة الدنيوية قد تفسد، وبأن تسلم بعض رجال الدين هذه السلطة، وبإدارتهم للسياسة باسم الدين، قد يحول حكمهم مع الوقت لسلطة مطلقة، قد تعيد تجربة استبداد الشاه من جديد.

وقد صرح الامام الخميني لصحيفة اللوموند، الفرنسية، في عام ١٩٧٩، خلال رجوعه إلى إيران بالقول: «نيتنا ألا يتسلم رجال الدين الدولة». وحينما زادت النزاعات حول المراكز، وقويت مواقع بعض رجال الدين السياسية، اضطر الامام الخميني إلى رفع الحظر عنهم للمشاركة في السلطة، ليؤدي ذلك إلى انتخاب خامنئي رئيسا في عام ١٩٨١، بل ليخلف الامام الخميني، بعد وفاته، في عام ١٩٨٩، مرشدا عاما للثورة.

وبعد أن تصاعدت الأصوات المعارضة ضد الدور السياسي المتشدد لبعض رجال الدين السياسيين، استشاط الرئيس خامنئي غضبا وانفعالا، من تزايد هذه الأصوات، لينتقدهم في عام ١٩٩٥ بقوله الفوقي المطلق: «يحزنني أن أرى الذين يعتبرون جزءا منا، يفهمون الحقيقة بطريقة ملتوية، وينشرونها. فتفسير الدين ليس علما يستطيع فهمه الجميع، فالفقه هو العلم الرئيسي لرجال الدين، وما يواجهه بعض رجال الدين من معارضة، يفرح الصهاينة والأمريكيين، لأنهم وجهوا قلوبهم لتحطيمهم. وسيصفع النظام الإسلامي هؤلاء، بالقوة على وجوههم». وقد تبين هذه المقولة شخصية هذه القيادة السياسية-الدينية، حيث يبدو أنه تناسى أن الناس تناقشه في أمور الدنيا والسياسة، وليس في أمور الدين والآخرة.

وقد استمرت الخلافات في تفاقم متصاعد بين القوى السياسية الوطنية، وبعض رجال الدين السياسيين المتشددين، لينتقد الثورة وتصرفات حكومتها في عام ١٩٨٩، أحد أعمدة النظام والثورة، وهو آية الله علي منتظري، الذي سماه الإمام الخميني بثمرة حياتي، وعينه خليفة له في بدايات الثورة، بقوله: «لقد فشلت الثورة في تحقيق وعودها، وتحتاج الحكومة إلى إصلاح حالها، ولا يجوز لها أن تحارب الأفكار المعارضة بالقتل، لأنه لا يمكن حل أي مشكلة بتلك الطريقة، بل يجب الرد عليها بأفكار أقوى. وإذا استمرت الحكومة في تجاهل المعارضة فستتحول كلماتها لرصاصات قاتلة».

كما اختلف علماء الثورة على فلسفة ولاية الفقيه، فالبعض أيدها بشدة، بينما تحفظ عليها البعض الآخر، لاعتقاده أنها تخالف الفلسفة التقليدية للدين الإسلامي. ومن أوائل ثوار ومفكري الثورة، الذين تحفظوا على هذه الفلسفة، هو المفكر الإسلامي الإيراني محسن كاديفار، الذي شرح تصوراته بالقول: «كل فرد في المجتمع، وكل فرد في الحكومة، محكوم بالقانون، ولا يمكن أن يكون أحد فوق القانون، فالجميع لهم حقوق متساوية. وتعتمد جذور فلسفة ولاية الفقيه على عدم المساواة، وتفرض أنها فوق القانون، فجاء الوقت لكي يلتزم مركز المرشد العام للثورة بالدستور، فهذا المركز ليس لرسول من الله، ولا لإمام معصوم عن الخطأ، بل هو مركز لبشر مثلنا، فقد حول هذا المركز القوة المطلقة لولاية الفقيه، إلى قوة غير عادلة وغير شرعية، مثل سلطة الشاه الغابرة. وفي الحقيقة، من واجب رجال الدين التبحر في الدين، ونشر أخلاقياته الروحانية الدائمة، لا أن يتنازعوا في متاهات سياسية، لمصالح دنيوية فانية، وسيرجع هؤلاء بأفكارهم الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى الوراء، بدل أن يدفعوها إلى الأمام، في اتجاه المستقبل».

وحينما زادت أوضاع الثورة تعقيدا، ولاحظ آية الله حسين كاظماني بوروجيردي، خطورتها على سمعة الدين الإسلامي، علق بقوله: «ان أكثر الضحايا إصابة من هذا النظام هو الدين الإسلامي نفسه، فيصر النظام على أن يلتزم الشعب بالإسلام السياسي، أو يدخل السجن أو ينفى أو يقتل. ويبدو أن الشعب قد مل الدين السياسي، ويطالب بالرجوع إلى دينه التقليدي الروحاني»، وقد امتد هذا الخلاف حتى ضم عائلة المرشد العام نفسه، فأخوه الأصغر الشيخ هادي «ثائر غير عادي»، وقد سجل اسمه كمرشح لانتخابات عام ١٩٩٨ لمجلس الخبراء، الذي من اختصاصه اختيار المرشد العام للثورة ومراقبة أدائه، فرفضته السلطة بحجة عدم تأهله، وقد علق على الأوضاع السياسية في البلاد بقوله: «أهم شيء ننظر إليه اليوم في إيران هو تطبيق القانون، ويعني ذلك أن لا أحد منا، مهما يكن مركزه، فوق القانون. وللأسف، الموجودون في القمة، لا يريدون قبول هذا الحق الأساسي، ويعتبرون أنفسهم فوق القانون، مع أن غالبية رجال الدين ليسوا في السلطة، وهم مقتنعون بما أقوله، ويعارضون الحكم السياسي الديني».

كما علق أكاديمي جامعة طهران، هادي صيمتي، بقوله: «هناك، على الأقل ٩٥% من رجال الدين، الذين لم يستفيدوا من الثورة، فبعضهم حصل على المال والسمعة، ولكن الأغلبية فقراء، ولم يكونوا يوما جزءا من تركيبة السلطة». ويبدو أن الحقد قد انتشر بين الشعب الإيراني، ضد بعض رجال الدين السياسيين المتشددين، لذلك بدأ الفقراء من رجال الدين البعيدين عن السلطة، الإحساس بالإهانة في المجتمع الإيراني، وتعكس ذلك رواية أحدهم بقوله: «تركت قريتي، وذهبت إلى قرب الشارع، وانتظرت سيارة الأجرة، تحت ظلال شجرة، في عز حر الصيف، وحينما وصلت السيارة، وأخذني السائق معه، وإذا به فجأة يتوقف، ويطلب إليّ النزول، وحينما سألته عن السبب، قال: لأحرم عليك التظلل بظلال الشجرة، ولكي تعاني هنا حرارة الشمس الحارقة، في وسط الشارع، قبل أن تحرقك نار جهنم». وتعكس هذه الحادثة مدى شدة الصراع في المجتمع الإيراني حول أيديولوجية الدين السياسي، وانشغال بعض رجال الدين السياسيين، بالنزاعات الدنيوية، وعدم تفرغهم لأمور دينهم، وممارسة اختصاصهم، بنشر قيم وأخلاقيات السلوك الروحاني، بين أفراد المجتمع، الذي في أشد الحاجة إليه مجتمعات عالمنا المادي اليوم. ولنا لقاء.

* سفير مملكة البحرين في اليابان



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة