الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٧١ - الأحد ٥ فبراير ٢٠١٢ م، الموافق ١٣ ربيع الأول ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

شرق و غرب


أمريكا والدرس العراقي القاسي





لا شك أن الغزو العسكري الأمريكي في العراق قد ترك آثاره العميقة في العراق نفسه والبنتاجون أيضا. لذلك فإن الولايات المتحدة الأمريكية ستفكر مرتين في المستقبل قبل أن تدخل في عملية عسكرية جديدة طويلة الأمد.

إنها تسمى تدخلات عسكرية عن بعد، أي استخدام الطائرات من دون طيار والصواريخ التي يتم إطلاقها من البوارج الحربية من أجل تدمير أهداف بشرية في بلد أجنبي من دون الحاجة إلى إرسال جنود إلى أرض المعركة.

في الوقت نفسه الذي تنسحب فيه الولايات المتحدة الأمريكية من العراق بعد ثمانية أعوام كاملة من الاحتلال، راحت سلطات واشنطون تكثف من استخدام هذه الأساليب التكتيكية للقتال عن بعد والاعتماد على فرق الكوماندوز ذات القدرة الفائقة على التحرك. لا شك أن هذه الأساليب التكتيكية تعتبر مجرد أمثلة على مدى التأثير العميق الذي تركه الغزو العسكري للعراق في مارس ٢٠٠٣ في السياسة الخارجية الأمريكية.

يقول ستيفن والت الأستاذ والباحث الأكاديمي بجامعة هارفارد الأمريكية العريقة:

«إن كارثة الغزو ستظل تجعل الولايات المتحدة تحجم عن القيام بأي عمليات عسكرية شبيهة - من بعيد أو من قريب - بالحرب في العراق. إن الولايات المتحدة الأمريكية لن تقدم بعد اليوم على عمليات احتلال عسكري طويلة المدى كما أنها لن تسعى مستقبلا إلى إعادة رسم السياسات الداخلية في أي بلد من البلدان. بعبارة أخرى بدل الدخول في حروب مباشرة مثل العراق وأفغانستان فإن الولايات المتحدة الأمريكية ستعتمد مستقبلا على ما يمكن أن نسميه «التدخلات الهادفة» على غرار اليمن وباكستان. إن الولايات المتحدة الأمريكية ستسعى وفق هذه الاستراتيجية الجديدة إلى تصفية الأشرار والقضاء عليهم بدل السعي إلى إصلاح النظم السياسية الحاكمة والمجتمعات بأكملها».

في شهر أكتوبر ٢٠١١ أعلن الرئيس باراك أوباما بنفسه انسحاب كل القوات العسكرية الأمريكية مع نهاية العام وقد جاء ذلك الإعلان ليضع حدا للمساعي التي قامت بها سلطات واشنطون من أجل رسم الشرق الأوسط على صورة الولايات المتحدة الأمريكية وقد كانت الإدارة الأمريكية ترغب في تحويل العراق إلى نموذج يمكن تسويقه بعد ذلك في كامل منطقة الشرق الأوسط.

إن الحرب في العراق قد جسدت نظرية جورج بوش، أي السياسة الخارجية التي تقوم على شن الحروب الاستباقية والوقائية لضرب أي شيء ترى فيه الولايات المتحدة الأمريكية خطرا يتهددها.

أمريكا تدفع ثمنا باهظا في العراق

لقد دفعت الولايات المتحدة الأمريكية ثمنا فادحا حيث سقط آلاف الجنود ما بين صرعى وجرحى عدا عشرات الآلاف من القتلى والمصابين العراقيين،إضافة إلى فاتورة الحرب التي تناهز تريليون دولار، وهو ما يفسر الأزمة المالية والاقتصادية الخانقة التي تتخبط فيها اليوم الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي انعكس سلبا على بقية اقتصادات العالم.

لقد كان المشروع الأمريكي في العراق فاشلا بكل المقاييس وهو ما يتجلى في تلك الخسائر المرتفعة. تسببت رعونة إدارة جورج بوش وانعدام كفاءتها أيضا في تلك الخسائر المادية والبشرية الفادحة كما أن الغزو الأمريكي قد خدم مصلحة نظام طهران حيث ان إيران نجحت منذ ذلك الوقت في تعزيز نفوذها العسكري.

مع انسحاب آخر جندي من العراق، يجد المسؤولون عن السياسات الخارجية والداخلية الأمريكية أنفسهم يواجهون - سنوات عدة قادمة - الثمن الباهظ للحرب التي كان يفترض أن تنتهي في غضون أشهر عدة. ذلك ما ذهب في اعتقاد جورج بوش وبقية أركان إدارته وحلفائه من المحافظين الجدد.

لقد قال وزير الدفاع الأمريكي ليون بانيتا ان الجنود الأمريكيين وأسرهم هم الذين تحملوا العبء الأكبر ودفعوا الثمن الأفدح جراء الحرب حيث ان أكثر من ٤٥٠٠ جندي قد لقوا مصرعهم في العراق عدا الآلاف الآخرين الذين تحولوا إلى مقعدين لبقية حياتهم من دون أن ننسى أولئك الذين انتحروا نتيجة إصابتهم بالاكتئاب وشتى المشاكل النفسية الأخرى.

لقد أشار وزير الدفاع الجديد ليون بانيتا إلى أن كارثة الحرب في العراق قد كبدت الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من ٨٠٠ مليار دولار في فترة تعاني فيها عجزا فادحا في الميزانية وتراكما للديون. وبالأرقام الإحصائية تفوق فاتورة الحربين الأمريكيتين في العراق وأفغانستان ١٢٠٠ مليار دولار.

يعتبر أغلب الخبراء المختصين في السياسة الخارجية أن الفاتورة المالية والبشرية الباهظة للحرب في العراق تمثل السبب الأساسي الذي يجعل اليوم الولايات المتحدة الأمريكية لا تقدم على غزو عسكري مماثل في مستقبل قريب. يذكر هؤلاء الخبراء أيضا أسبابا عدة أخرى وخاصة الشعور بأن الاحتلال الأمريكي للعراق - ورغم الاستثمارات الكبيرة التي بذلت فيه - قد مثل مغامرة كبيرة من دون أي غد.

يقول كنيث بولاك، الخبير المختص في شؤون الشرق الأوسط بمعهد بروكينز في واشنطون: «إن الولايات المتحدة الأمريكية لن تنسى قريبا عملية إعادة الإعمار الفاشلة في العراق. هذا هو الدرس المستفاد من هذه الحرب: إذا كان الغزو سهلا فإن إعادة الإعمار تتطلب جهدا كبيرا ومستمرا. إذا لم تكن مستعدا فلا تقدم على مثل هذا التدخل العسكري.

إن الفاتورة الباهظة للحرب في العراق ستنعكس سلبا على الجهود الرامية إلى تحديث الجيش الأمريكي، فقد تسببت الحرب في العراق في زيادة العبء وتفاقم الضغوط على الأوضاع المالية الأمريكية، بل إن هذه الحرب قد أدت إلى نشوء الوضع المالي الخطر الذي تتخبط فيه الولايات المتحدة الأمريكية.

يقول جيمس لندسي، مدير البحوث والدراسات في مجلس العلاقات الخارجية في واشنطون:

«إن العواقب الوخيمة الناجمة عن الحرب في العراق ستظل تخيم بظلالها على مستقبلنا عندما نكون في حاجة إلى طائرات وأسلحة جديدة وهي باهظة جدا اليوم». صحيح أن الفاتورة المباشرة للحرب الأمريكية في العراق تعتبر باهظة غير أن فاتورة الخسائر الأخرى غير المباشرة تمثل كارثة حقيقية على الولايات المتحدة الأمريكية. لقد سلطت الولايات المتحدة الأمركية كل اهتمامها على العراق في الوقت الذي كان يتعين عليها أن تركز فيه في الصعود الصاروخي للصين، كقوة اقتصادية وعسكرية قادمة بقوة».

اهتزاز صورة الجيش الأمريكي

في الحقيقة فإن الحرب في العراق وأفغانستان قد جعلت الولايات المتحدة الأمريكية تهتم بمنطقة ليست مدعوة للعب دور رئيسي في صنع الرخاء الأمريكي المستقبلي. في هذا الصدد يقول المترشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأمريكية المزمع إجراؤها سنة ٢٠١٢ جون هونتسمان: «إن مستقبلنا لا يوجد في جبال أفغانستان». يعتبر الباحث جيمس لندسي: «بعد أن ركزت كل اهتمامها في العراق، بات يتعين على الولايات المتحدة الأمريكية أن تتلافى تأخرها في منطقة ستلعب دورا كبيرا في مستقبلها. يتعلق الأمر ببلدان شرق آسيا».

لقد تضررت صورة الجيش الأمريكي كثيرا جراء الحرب في العراق. يقول ستيفن والت: «لقد كنا نشعر بأن جيشنا الأمريكي يملك عصا سحرية وأنه قادر على القيام بكل شيء وتنفيذ اي مهمة تسند إليه بكل نجاح وخاصة بعد سلسلة الانتصارات التي حققها مثل حرب الخليج الأولى والتدخل العسكري في إقليم كوسوفو وصولا إلى العمليات العسكرية الأولى في أفغانستان...».

«أما في الوقت الراهن فإن الولايات المتحدة الأمريكية ستكون أكثر حيطة وحذرا وتختار المناطق التي يمكن للجيش الأمريكي أن يلعب فيها مستقبلا دورا معينا إذا ما اقتضت الضرورة ذلك».

يقول هنري باركي، المحلل السياسي السابق في وزارة الخارجية الأمريكية:

«إن هذا الحذر الأمريكي قد تجلى بكل وضوح في الدور الداعم فقط الذي لعبته الولايات المتحدة الأمريكية باختيارها في إطار التدخل العسكري لحلف الأطلنطي في ليبيا».

في الحقيقة اعتبر الخبراء أن ليبيا كانت تدخل فقط ضمن المصالح الثانوية الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، فالاختبار الحقيقي حسب رأيهم إنما يتمثل في مدى تأثير الحرب في العراق في السياسة الخارجية الأمريكية مع إيران. لقد تجلت الآثار الوخيمة للحرب في العراق في ردود الفعل الحذرة التي تعاملت بها إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما مع المعلومات الحساسة التي كشف عنها آخر تقرير صادر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية فيما يتعلق بحقيقة بالنيات الإيرانية الخفية لامتلاك السلاح النووي.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة