الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٧٣ - الثلاثاء ٧ فبراير ٢٠١٢ م، الموافق ١٥ ربيع الأول ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


اقتصادات متعثرة في دول «الربيع العربي» بعد عام على الثورة.. رؤية تقييمية





بعد مرور عام تقريبًا على الثورات التي شهدها بعض الدول العربية خلال عام ٢٠١١، حيث أطفأ كل من تونس ومصر الشمعة الأولى لثورتيهما خلال الشهر الحالي، واستطاعتا أن تشقا طريقيهما نحو إرساء أولى قواعد الديمقراطية، وما انتخابات المجلس التأسيسي في تونس ومجلس الشعب في مصر إلا دليل على ذلك، فيما بدأ اليمن، على ما يبدو، بالسير في اتجاه التعافي والخروج من عنق زجاجة الأزمة المستفحلة، حيث إن ترك الرئيس اليمني «علي عبدالله صالح» البلاد، وهو معتذر لشعبه عن أي إساءة، وسفره للعلاج في أمريكا سيسهم كثيرًا في تنفيذ آلية الحل وفق المبادرة الخليجية، فيما يقابل المجلس الوطني الانتقالي، الذي يتولى السلطة في ليبيا بعد الإطاحة بنظام «معمر القذافي» ومقتله في شهر أكتوبر الماضي، صعوبات لإعادة إعمار البلاد، وجمع الأسلحة وتفكيك الميليشيات، وتحقيق الأمن والاستقرار.

فالتحديات التي تواجه هذه البلدان مازالت كبيرة، نظرًا لعدم خبرة الحكام الجدد في مسألة إدارة حكم البلاد، ويأتي الهاجس الاقتصادي على رأس تلك التحديات؛ حيث بدأت الشعوب تستشعر بوادر أزمة اقتصادية حقيقية انعكست على حياتهم اليومية، إذ شهدت غلاءً فاحشًا في الأسعار جعل الأسواق تعاني الكساد، وفرار معظم المستثمرين الأجانب تخوفا من الانفلات الأمني الذي تعيشه تلك الدول، وهو ما تسبب في إغلاق العديد من المصانع والشركات وتسريح الكثير من موظفيها، وبالتالي زيادة عدد فقرائها وتراجع قيمة عملاتها واحتياطياتها الأجنبية وصادراتها وإيراداتها.

وتأكيدًا لهذا الواقع ذكر تقرير لمجموعة «جيوبولوسيتي» للاستشارات أن الانتفاضات الشعبية في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، كلفت المنطقة أكثر من ٥٠ مليار يورو، وفي تقرير صادر عن اتحاد المصارف العربية، قدرت الخسائر الاقتصادية في دول «الربيع العربي» بنحو ٥٥ مليار دولار، بسبب الاضطرابات السياسية والأمنية منذ مطلع العام الماضي، ونقلاً عن البنوك المركزية لتلك الدول، بالإضافة إلى صندوق النقد الدولي، وتوقعات محللين استراتيجيين، فقد فقدت هذه الدول ما إجماليه ٣٢ مليار دولار من احتياطياتها الأجنبية منذ بداية الثورات وسقوط بعض الأنظمة. كما من المتوقع أن ينخفض النمو في تلك الدول إلى نحو ٣,٧% عام ٢٠١٢، مقابل ٤,٣% عام ٢٠١١، وستشهد تونس أكبر الانخفاضات لتصل إلى صفر عام ٢٠١٢، مقابل ٣ عام ٢٠١١، ثم مصر ١,٢% بعد ان كان ٥,١%.

وبإلقاء نظرة سريعة على تلك الاقتصادات، نجد أن مصر تواجه ثلاثة تحديات اقتصادية رئيسية، هي استعادة الثقة باقتصادها، وتوفير فرص عمل، وحماية الفقراء، فهي بحاجة إلى ١٥ مليار دولار لتفادي أزمة مالية شاملة مع عدم الاستقرار السياسي الذي تعيشه، وانخفاض الاحتياطي الأجنبي، وفقًا للبنك المركزي بنحو ١٢ مليار دولار من أعلى مبلغ سجله في شهر ديسمبر ٢٠١٠ عند ٣٦ مليار دولار، وبرزت مصر باعتبارها الأكثر تأثرًا بانحسار الاستثمارات المباشرة، إذ تقلصت حصتها بنسبة ٦٥% عام ٢٠١١ منخفضة من ٦،٤ إلى ٢,٢ مليار دولار، ويعد قطاع السياحة من أكثر القطاعات التي تعاني ارتدادًا كبيرًا، حيث تراجعت إيراداته في ٢٠١١ مقارنة بعام ٢٠١٠، نظرًا لتقلص عوائد السياحة في ٢٠١١ إلى ٨,٨ مليارات دولار مقابل ١٢,٥ مليار دولار في .٢٠١٠

هذا ناهيك عن ارتفاع معدل التضخم ليتراوح ما بين ١٢ و٢٠% طبقًا للتقديرات الرسمية وغير الرسمية، وكان من البديهي أن يترك هذا الوضع الاقتصادي المتردي أثره في حد الفقر الذي ارتفع إلى ٤٠% بدلاً من ٢٢% طبقًا لتقديرات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء. تجدر الإشارة إلى أن مصر تواجه عجزًا في الميزانية الحالية يصل إلى ١٤٤ مليار جنيه مصري (٢٣,٨٥ مليار دولار)، أي ما يوازي ٨,٧% من الناتج المحلي الإجمالي، إلا أن محللين يتوقعون ازدياد هذا العجز.

أما الاقتصاد التونسي، فقد تكبد بسبب الاعتصامات العشوائية خسائر مالية بقيمة ٢,٥ مليار دينار (١,٦ مليار دولار) خلال عام ٢٠١١، وتراجع النمو الاقتصادي للبلاد بنحو نقطتين تحت الصفر، وهذه هي المرة الأولى التي يسجل فيها الاقتصاد التونسي نموا سلبيا منذ ٢٠ عامًا، بعدما حققت تونس خلال العقدين الأخيرين نموا اقتصاديا بمعدل ٥% سنويا، وذلك نظرًا لما تواجهه من تحديات اقتصادية واجتماعية أساسية، في مقدمتها موضوع البطالة؛ إذ يوجد أكثر من ٧٠٠ ألف تونسي عاطل عن العمل.

وبالنسبة إلى الوضع الاقتصادي اليمني، فما يمكن أن يقال عنه باختصار انه أصبح كارثيا، فالفقر يستفحل والبطالة تضاعفت والخدمات تتدهور فيما ارتفعت أسعار المواد الأساسية ثلاثة أضعاف منذ بداية عام ٢٠١١، فزهاء ٦٠% من سكان اليمن البالغ عددهم ٢٤ مليون نسمة باتوا يعيشون دون خط الفقر بدخل يومي للفرد دون دولار واحد، فيما فاقت نسبة التضخم ٣٥%، وتشهد البلاد نقصا حادا في المشتقات النفطية والغاز للاستخدام المنزلي التي تباع اليوم بأسعار تفوق سعرها الرسمي بنسبة ٢٠٠% أو ٣٠٠%، علاوة على انقطاع مياه الشرب والكهرباء، ما يفاقم الصعوبات لدى السكان.

وتراجعت نسبة النمو الاقتصادي اليمني التي بلغت ٤,٥% عام ٢٠١٠ إلى ١,٥% خلال النصف الأول من عام ٢٠١١، وذلك بحسب مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية بجدة.

وقد أكد مركز «كارنيجي للشرق الأوسط» في تقريره عن الواقع الاقتصادي في سوريا، أن أعمال العنف قد ألحقت الضرر بالقطاع السياحي الذي كان يستخدم ١١% من اليد العاملة وجنى أكثر من ٧,٦ مليارات دولار في ٢٠١٠، أي ١٢% من إجمالي الناتج الداخلي. كما انخفضت التجارة الخارجية لسوريا أكثر من ٥٠% والاستثمارات الأجنبية توقفت، وتسارعت وتيرة هروب رؤوس الأموال، وقد أجريت تحويلات تفوق قيمتها أربعة مليارات دولار إلى خارج سوريا منذ بدء حركة الاحتجاج في مارس، وهو ما تسبب في فقدان الليرة السورية الكثير من قيمتها أمام الدولار؛ حيث كان سعر صرفها قبل بدء الاحتجاجات المطالبة بسقوط النظام هو ٤٧,٥ ليرة لكل دولار واحد، ولكن في الأشهر الماضية زاد طلب السوريين على الدولار تحسبًا لتردٍ أكبر للوضعين الاقتصادي والسياسي، مما تسبب في هبوط كبير لليرة في السوق السوداء، فبيع الدولار بقرابة ٧٠ ليرة، فيما ارتفع السعر الرسمي إلى ٥٧ ليرة للدولار الواحد.

وخسرت ليبيا قرابة ٥٠ مليار دولار جراء الدمار الواسع وتوقف بيع النفط منذ بداية الأحداث في فبراير حتى أغسطس ٢٠١١، فبعدما كان الاقتصاد الليبي ينمو بواقع ٧ إلى ٨% سنويا قبل اندلاع الثورة، توقف النمو فجأة، نتيجة تجمد الكثير من المشاريع التي كانت تمول من عوائد النفط.

وفيما كان الوضع المعيشي والاقتصادي لسكان تلك الدول سببًا رئيسًا وراء إحداث الثورات في هذه الدول، إلا أن الأوضاع الاقتصادية مازالت متردية وتواجه العديد من الصعوبات والتحديات، وعليه كان يجب أن يحدد كل بلد في المنطقة مساره الخاص نحو التغيير، فمن الضروري المضي قدمًا في معالجة التحديات الاقتصادية والمشكلات التي تواجه الأداء الاقتصادي خلال الفترة الانتقالية من دون الانتظار لما بعد حل الأمور السياسية، فالاقتصاد يجب ألا ينتظر، لأن الآثار السلبية قد تتراكم.

ولتحقيق هذه الغاية، يجب التركيز في نقطة مهمة، هي أن الاستقرارين المالي والاقتصادي لا يمكن الاستغناء عنهما في بناء أي مجتمع جديد، ومن دونهما فإن أي جهود لتحقيق تطلعات الشعوب لا يمكن لها أن تتحقق، من دون تجاهل الحقيقة أن تردي الأحوال الاقتصادية والمعيشية للشعوب العربية كان نتيجة لانصرافها وانخراطها بالسياسة، متناسية ضرورة العمل الجاد، فالحكومات الجديدة ركزت فقط في العمل لرفع الرواتب، وتخفيض الأسعار، وخفض الضرائب، من دون أن يقابل ذلك إنتاج وتنمية حقيقيان، عن طريق الاستثمار في التعليم والصحة والبنى التحتية، وفي المشاريع التنموية.

وعلى ذلك، ينبغي أن تبدأ الحكومات في جميع أنحاء المنطقة التحرك نحو سياسات مالية أفضل، وتوفير بيئة مواتية، قائمة على وجود مؤسسات حديثة وشفافة لتشجيع المساءلة والحوكمة السليمة، عن طريق تفكيك المصالح وشبكات الامتيازات التي تحول دون وصول المنطقة إلى إمكاناتها الاقتصادية الحقيقية.

وذلك من أجل الوصول إلى المشروعات التنموية التي توفر فرصًا للمواطنين وتلبي احتياجات المجتمع من الخدمات العامة، ولكن طبعًا هذا مرهون بعودة الأمن والاستقرار لهذه الدول، حيث إنه إذا ما استمرت الاضطرابات السياسية والأمنية على وضعها، فلن يكون الوضع أفضل حالاً؛ حيث إن المصاعب الاقتصادية التي خلفتها تلك الأحداث ستتفاقم، وتؤدي إلى المزيد من التدهور في الوضع الاقتصادي والمعيشي.

ولعدم الغوص في كلام، اقرب إلى التمني، لابد أن ندرك أن المنطقة العربية تحتاج لتطوير البنية التحتية من ٥٠ مليار دولار سنويا إلى ٨٠ مليارًا حتى عام ٢٠٢٠، عقب الدمار الذي خلفه بعض الأحداث التي شهدها بعض الدول، ليرتفع حجم الأموال المطلوبة من ٤٥٠ مليار دولار كانت متوقعة قبل اندلاع الثورات إلى ٧٠٠ مليار دولار، في حين أن تلك الدول تعاني ترديا في الوضع الاقتصادي وعجوزات في موازناتها العامة الناجمة عن تدني الإيرادات، مما أجبر عددًا منها على اللجوء إلى الاقتراض من بعض المنظمات الاقتصادية الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ولكن علينا أن ندرك أن تلك المنظمات قد تفرض شروطًا تضر بالمجتمع وتعني المزيد من التبعية لها، لذا فمن أين ستأتي بتلك الأموال التي تمكنها من الخروج باقتصاداتها من عنق الزجاجة؟ وهنا علينا ألا ننكر أن حساب المكاسب والخسائر للمنطقة، يشير بلا شك إلى أن الأحداث التي شهدها بعض دول المنطقة حققت فائدة اقتصادية لأطراف أخرى، كاقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي، إذ استفادت من أسعار النفط المرتفعة، وحققت ناتجًا قوميٌّا قدر بتريليون دولار عام ٢٠١١، وحجم تجارة خارجية اقتربت من ٩٠٠ مليار دولار، وذلك وفقًا لإحصاءات الأمانة العامة في مجلس التعاون الخليجي، كما كشفت مجلة «فوربس ؟ الشرق الأوسط» بالتعاون مع صندوق النقد الدولي في عددها الجديد الخامس عشر عن قائمة التصنيف لـ«أفضل السياسات الاقتصادية أداءً في العالم العربي ٢٠١١»، أن الارتفاع الكبير الذي عرفته أسعار النفط خلال عام ٢٠١١ دفع باقتصادات الدول العربية المصدرة إلى تحقيق النمو في إيراداتها، وبذلك تصدرت ٧ دول منها المراتب الأولى ضمن القائمة كالسعودية والإمارات وقطر وعمان والكويت والعراق والجزائر؛ حيث استغلت فائض الإيرادات في تحسين حجم إنفاقاتها على الاستثمارات الداخلية في البنية التحتية والقطاعات الحيوية كالصحة والتعليم، إضافة إلى رفع مستوى معيشة سكانها.. وبناء عليه فقد كثرت المطالب بإنشاء «بنك عربي» على غرار «البنك الأوروبي» للإسهام في دعم اقتصاد دول الثورات العربية، على غرار مشروع «مارشال» بعد الحرب العالمية الثانية لإعادة إعمار أوروبا. ولاسيما أن التجربة أثبتت للدول العربية النفطية أن أمنها القومي مرهون بتوفير الأمن الاقتصادي والقومي لباقي دول المنطقة، وأن مساعدتها للدول الفقيرة أو الدول التي تعاني ترديا اقتصاديا في تلك المرحلة كمصر وتونس واليمن وسوريا تعود بالإفادة على الطرفين. لذا فمن الأهمية توجيه الدول النفطية جزءًا من استثمارات صناديقها السيادية إلى مصر وتونس على سبيل المثال، وزيادة فرص العمل واتخاذ المزيد من التيسيرات والتسهيلات لزيادة عمالتهما في الدول العربية.

وفي إطار تلك الخطوة توقع البنك الدولي أن تصل قيمة المساعدات الرسمية المقدمة من دول الخليج إلى الدول العربية الأخرى بين ٢٠١٢ و٢٠١٥ كقروض ومنح إلى ١٥ مليار دولار، أو ٣٠% من التمويل الخارجي الذي ستحتاج إليه الدول المتلقية التي تشمل مصر وتونس والأردن والمغرب ولبنان واليمن، من أجل تعزيز موازناتها المالية وزيادة الدعم الحكومي للتخفيف من أعباء أسعار الغذاء والضغوط الأخرى عن مواطنيها.

من ناحية أخرى يجب أن تعترف دول الثورات العربية بأن تحقيق التنمية الاقتصادية وتيرةٍ مستدامةٍ لا يمكن أن يتم عن طريق القطاع الحكومي، بل يحتاج إلى قطاعٍ خاص قوي وقادر على مجابهة المنافسة الخارجية ورسم معالم المرحلة المقبلة، لذا فعلى الحكومات الجديدة أن تتنازل عن جزء من سيطرتها على الاقتصاد عن طريق شبكة متداخلة من المساهمات في القطاع الخاص، فيجب أن يتصدى واضعو السياسات جديا للعوامل المعوقة للاستثمار الخاص المحلي والأجنبي، عبر تنفيذ الإصلاحات في عدد من القطاعات كالقطاعين الخدمي والمالي، كما لابد للسلطات أن تراجع الحوافز الممنوحة بموجب قانون الاستثمار، وتطبق تدابير داعمة للاستثمار والصادرات تكون أكثر فعالية واتساقاً، والتصدي لثقافة الفساد، بما يعني الحد من تفشي الرشا والتهرب والاحتيال الضريبي وإخضاع الجميع من دون استثناء إلى القانون.

كما على الحكومات، التي تغيرت أنظمتها، أن تأخذ كلمات البروفيسور «جوزيف ستيجليتز» الاقتصادي العالمي والحائز جائزة نوبل في الاقتصاد والخبير السابق في صندوق النقد الدولي، التي دعا فيها الحكومة المصرية إلى أن تقوم بدور بارز في المرحلة الانتقالية الراهنة للاستفادة من المزايا النسبية وتحريك الاقتصاد خاصة في مجال تطوير التعليم والاهتمام بتأهيل الموارد البشرية بشكل أساسي لتعظيم الاستفادة من هذه الموارد التي تمثل أهم الثروات لديها، كما نجحت الصين في هذا الأمر، وهو السبب في نهضتها، على محمل من الجد.







.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة