الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٧٤ - الأربعاء ٨ فبراير ٢٠١٢ م، الموافق ١٦ ربيع الأول ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

عالم يتغير




السفير الأمريكي: أين موقعه من استراتيجية بلاده الجديدة؟ (١ - ٢)





* كثيرة هي الكتب والدراسات، وبمختلف اللغات، التي تتحدث اليوم عن المحاولات الأمريكية، وهي في الواقع محاولات الحلف العسكري - الصناعي، للهيمنة الكاملة على العالم، التي ابتكر بعض الكتّاب والاستراتيجيين الأمريكيين وغيرهم كثيرا من ملامحها في عناوين كتب مختلفة لعل أشهرها (نهاية التاريخ) و(صدام الحضارات) في ظل «القرن الأمريكي» باعتبار أن هذا القرن «الحادي والعشرين» هو قرن أمريكي، بعد سقوط أجواء الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي سابقاً، والانفراد بالعالم، مع بداية التسعينيات، ومحاولة منع التعددية القطبية عبر وضع خطط واستراتيجيات للجم كل من «الصين وروسيا» وعلى خلفية بروز قوى عالمية أخرى كالاتحاد الأوروبي والهند والنمور الآسيوية.

* في إطار الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، بعد استنزاف طاقات كبيرة في كل من أفغانستان والعراق، وضعت الولايات المتحدة، جهودها المكثفة لرسم الشرق الأوسط الجديد، بما يخدم أهدافها ومطالبها في الهيمنة الكاملة وبأقل الخسائر الممكنة، وباعتبار أن السيطرة على الشرق الأوسط هي المدخل الحيوي لإعادة رسم خريطة القوى في العالم، ولجم المنافسين المستقبليين وعلى رأسهم الصين وروسيا، وبحيث تكون إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، قائمة على (الثورة الإلكترونية) ومواقع التواصل كالفيس بوك والتويتر وغيرهما من أدوات التواصل الاجتماعي السريع، لذلك هي عملت منذ بداية القرن الحالي على تدريب وتمويل أبناء من الدول العربية وغيرها بما يخدم إحداث التغييرات والثورات، ومن دون تدخل أمريكي مباشر، وإنما برعاية ومتابعة ووصاية أمريكية، وبتدخل المنظمات الدولية الحقوقية التابعة للكونجرس الأمريكي ووفق الخطط الأمريكية الجديدة، ومن دون أي تكلفة عسكرية أو بشرية أو مادية كبرى، كمثل الذي حدث في كل من حربي أفغانستان والعراق، لنشر ديمقراطيتها القائمة على إيجاد أرضية مخلخلة تسبقها، وهي أرضية «الفوضى الخلاقة» حسب تسميتها بإثارة الفتن الطائفية والعرقية، وهو ما يجعل من المبالغ التي تصرفها، لدعم المنظمات الدولية التابعة لها والمسيسة، ودعم المؤسسات والنشطاء وزرع الكوادر المدربة، هي مبالغ زهيدة إذا ما تم قياسها بالتدخلات العسكرية المباشرة وبالخسائر البشرية والمعنوية الناتجة عنها.

* في إطار مثل هذه الاستراتيجية اتضحت حتى الآن الوسائل والتوجهات الجديدة التي تخدم إعادة رسم الشرق الأوسط الجديد كمقدمة للهيمنة الأمريكية الكاملة المأمولة ونحاول إيجازها في بعض النقاط الأساسية:

١- تفكيك وتقسيم وشرذمة الدول العربية عبر زعزعة استقرار هذه الدول، وتغيير حلفائها (من حلفاء بصيغة أنظمة إلى حلفاء بصيغة «معارضة») تنسّق معها وتمولها وتدعمها ماديا ولوجستيا، وتجعلها أدوات في خدمة أهدافها، بعد تزويدها بالشعارات اللازمة كالديمقراطية والحريات والحقوق، وهي تدرك أن غالبية الشعوب العربية، متعطشة لتحقيق تلك الشعارات، ومستعدة لبذل الغالي والنفيس من أجل تحقيقها، حتى لو أدى الطريق الأمريكي إليها، إلى خسائر حقيقية كبيرة على مستوى الوطن والإنسان وعلى مستوى المصائر المستقبلية.

٢- زرع كوادر مدربة لتحقيق النقلات والتغييرات المطلوبة، بحيث تبدو يد التغيير والثورة هي يد محلية، فيما الراعي هو أمريكي بكل قيمه وثقافته وأهدافه الكبيرة، وبحيث تظهر الولايات المتحدة (نصيرة الشعوب) هذه المرة، بدلا من أن تكون نصيرة الحكومات التي تم انتقادها، لكأن من تدعمهم لن يتحولوا بعد ذلك إلى كوادر «سلطوية» في النهاية، وبحيث تكون تلك الكوادر المتعطشة للسلطة قابلة للدخول في مفردات (الفوضى الخلاقة) بوعي أو من دون وعي وحسب مواصفات ومعادلات الديموغرافيا والتقسيمات الطائفية أو العرقية أو القبلية أو الدينية في كل بلد، فالوسيلة معروفة (أجهزة التواصل الاجتماعي) المحركة للتجمعات الشعبية، والشعارات دائما جاهزة، والردود على وسائل الإعلام تم التدريب والإعداد لها، لهذا نجد أن ردود غالبية المعارضات التي تقود التحركات الشعبية هي متشابهة، وقوامها وأسانيدها الفكرية واحدة، فقط الهدف الأمريكي هو وحده الذي يكتنفه الغموض والتلاعب عن عمد.

٣- التخلي الانتهازي عن قيم غربية هي من صلب الحياة الغربية، كالليبرالية والعلمانية لصالح احتواء القوى التي كانت سابقاً تعتبرها «عدوة» كالقوى الإسلامية (سُنية أو شيعية) حسب كوادر المعارضة فيها، فهي تشجع «الإسلاميين السلانة مثلاً أي السلفيين أو الإخوان المسلمين أو غيرهم»، إن كانوا ذوي استقطاب شعبي كبير كما في تونس ومصر وليبيا وغيرها من دول «الربيع العربي» حسب التسمية الغربية، أو أنها تشجع (الشيعة) كما في الخليج العربي وبقوة كما في البحرين، والهدف في النهاية واحد، ولا يهم لتحقيقه لا الليبرالية ولا الديمقراطية حتى إن وجدت أصلاً في إحدى تلك الدول، كما هو حادث بالنسبة إلى المشروع الإصلاحي والديمقراطي في البحرين، فالهدف هو خلخلة النظم و«استبدال الحلفاء بقوى المعارضة»، ولا يهم إن كانت معارضة حقيقية أو غير ذلك أيضاً وطنية أو نقيض ذلك، دينية أو ثيوقراطية ولائية أو غير ذلك، المهم أن تكون قابلة في المستقبل لتكون عنصر قلق وزعزعة دائمين وضرب الاستقرار، الذي من خلاله يتم ضمان (الهيمنة الكاملة) حسب الاستراتيجية الأمريكية الجديدة وفي أجواء الفتن والفوضى.

٤- استخدام المنظمات الحقوقية المسيّسة وأقواها تابعة للكونجرس الأمريكي كما بات معروفاً، من أجل الضغط على الحكومات المستهدفة بالمتغيرات الاستراتيجية الأمريكية، مثلما استخدام الضخ الإعلامي لدعم ومساندة قوى أو أدوات التغيير، بين قوسين (المعارضات) وشباب ونشطاء الحقوق وأجهزة التواصل الإلكتروني المدعومين أمريكيا.

٥- التلوّن والتناقض في الموقف مما يدور على أرض الواقع العربي سواء في الخطاب الأمريكي، حسب حجم وقوة الحدث أو ضعفه، مثلما تناقض الخطاب المتلون نفسه مع ما يدور أمريكيا خلف الستار، أو تناقض التصريحات مع ماهية الدعم المقدم إلى المعارضات، أو التلاعب بالنصائح المقدمة إلى الدولة المستهدَفة.

* ولأن المسألة هي تأمين إسرائيل بخلق محيط (عربي) حولها مفكك، مضطرب، قلق متنازع شعبيا، والمسألة الأخرى السيطرة على «النفط» والموارد والثروات، فإن الولايات المتحدة حتى تأمن استقرار هيمنتها على الشرق الأوسط، وبعد ذلك تُؤمّن هيمنتها على بقية بقاع العالم، لا يهمها لا حلفاء ولا أصدقاء ولا استقرار، ولا حتى تطبيق الديمقراطية والإصلاح، هي تستخدم كل ذلك ونموذجها وانجازها في ذلك هي ما خلفته وراءها من (الحالة العراقية)، الذي يهمها وحسب النصائح الاستراتيجية لمراكز القرار لديها، هو أن يكون التوجه من دعم الحكومات إلى دعم المعارضات، ثم (احتواء تلك المعارضات) وإن كانت كلها إسلامية أو طائفية لا يهم، فذلك هو الوسيلة لمسار مستقبلي أسلم في نظرها، وهي البؤرة الصالحة بشكل أكبر لتفريخ فوضاها الخلاقة بالنسبة إليها، وحيث في مناخ الفتن والفوضى والصراعات تزدهر إمكانيات الهيمنة الكاملة التي تريدها، وبالمقابل إن لم تع دول الخليج العربي هذه الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، وتعمل بكل ما لديها من إمكانيات وقوة وعنصر توحد لمواجهتها، فإن الدأب الأمريكي مستمر للتلاعب بها وباستقرار وأمن أنظمتها وشعوبها.

وللحديث صلة.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة