الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٧٤ - الأربعاء ٨ فبراير ٢٠١٢ م، الموافق ١٦ ربيع الأول ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

شرق و غرب


هل تنزلق سوريا في الحرب الأهلية؟





تجد سوريا اليوم نفسها في مفترق للطرق في ظل احتدام المواجهات بين قوات الأمن التابعة للنظام البعثي الحاكم في دمشق والجيش السوري الحر الذي يضم في صفوفه الضباط والجنود المنشقين والمناهضين لبشار الأسد.

يقول بعض المحللين ان الحال قد ينتهي بسوريا في أسوأ الأحوال إلى التقسيم وهم يعتبرون أن نظام بشار الأسد قد يعمد في نهاية المطاف إلى نقل كل أجهزته العسكرية والأمنية إلى منطقة شمال غربي سوريا المأهولة بالسكان الذين ينحدرون من الأقلية العلوية التي ظلت تهيمن على السلطة على مدى عقود. لقد كان عبدالحليم خدام - الذي تولى منصب نائب الرئيس السوري ما بين سنتي ٢٠٠٠ و٢٠٠٥ والذي يعيش الآن في بلاد المنفى في أوروبا - واحدا من الذين طرحوا هذه الفرضية التي شاطره فيها بعض المحللين السياسيين الآخرين.

في الحقيقة تعتبر هذه الفرضية غير مقنعة ذلك أن النظام البعثي بقيادة بشار الأسد لايزال يحظى بتأييد قوي في صفوف الأغلبية السنية نفسها إضافة إلى الطبقة البرجوازية الغنية التي تتركز أساسا في مدينة حلب والعاصمة السورية دمشق. يظل نظام دمشق يتمتع أيضا بقدرة كبيرة على المقاومة رغم ازدياد الضغوط والتحديات الداخلية والإقليمية والدولية. ذلك ما عبر عنه الكاتب والمحلل الصحفي ريون جيرارد في مقال تحليلي بعنوان «الرهان الحقيقي للحرب في سوريا». لقد سعى هذا المؤلف إلى التعمق في فهم الأحداث الجارية حاليا في سوريا من منظور أقلياتها، فالمسيحيون يمثلون نسبة ١٠% تقريبا من العدد الاجمالي للسكان في سوريا وهم يؤيدون النظام البعثي بقيادة بشار الأسد بكل قوة، وهو الموقف الموالي نفسه الذي يتخذه أيضا أبناء الأقلية المسيحية. للعلم فإن السلطات الدينية، وفي مقدمتها البطريرك كيريل قد اتخذت موقفا مناهضا للثورة «الديمقراطية» الحالية في سوريا. أما ميشيل كيلو، الزعيم المسيحي المعارض والمؤيد لحركة الاحتجاجات ضد نظام دمشق البعثي فقد توارى عن الأنظار ولم يعد يسمع له صوت في وسائل الاعلام المختلفة.

لعل ما تعرض له أبناء الأقلية المسيحية في العراق المجاور في عراق ما بعد صدام حسين قد بعث الخوف في نفوس الأقلية المسيحية في سوريا؟ لعل تلك المخاوف هي أيضا التي جعلت جزءا كبيرا من المسيحيين اللبنانيين يؤيدون الجنرال ميشيل عون المتحالف مع حزب الله اللبناني الشيعي، إن هي إلا صورة من صور الشرق المعقد والمزروع بالإشكاليات والمخاطر.

لا شك أن الدوائر السياسية والاستراتيجية في الدول الغربية - وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا- تجري حساباتها. إن الغرب يدرك تمام الإدراك أن قطع رأس النظام في دمشق سيؤدي إلى كسر المحور الاستراتيجي القائم بين إيران وسوريا وحزب الله اللبناني، فهي تعتبر أنه يمكن النيل من إيران - العدو الأكبر للغرب - من خلال إسقاط النظام الحاكم في سوريا الذي تحول إلى ذراع أخرى من الأذرعة التي تدور في فلك الجمهورية الإسلامية الإيرانية. كل ذلك باسم الديمقراطية التي عصفت بعدة أنظمة دكتاتورية عربية وجعلت السلفيين يحصدون ما لا يقل عن ٢٥% من الأصوات في الانتخابات البرلمانية التي شهدتها مصر مؤخرا.

لا شك أن الضرورة تدعو إلى العمل على احتواء الغرب وفرض الشفافية على برنامجها النووي المثير للجدل الذي يكتنفه الكثير من الغموض والذي يغذي كل الهواجس والمخاوف. يجب على الغرب أن يدرك أيضا أن عزل إيران وتشديد العقوبات على اقتصادها وصناعتها النفطية ومصرفها المركزي لن ينهيا برنامجها النووي. بل إن الغرب - من ورائه المجتمع الدولي - قد يجني في نهاية المطاف نتائج عكسية. إن تشديد الضغوط على إيران قد يدفع سلطات طهران إلى مزيد من التشدد وتكثيف دعمها لبشار الأسد، مدعومة بالغطاء الروسي في مجلس الأمن الدولي حيث ان سلطات موسكو ظلت تلوح باستخدام حق الفيتو لإجهاض أي مشروع قرار دولي يدعو إلى تنحي بشار الأسد أو يفرض عقوبات اقتصادية دولية على سوريا.

لقد سعى الغرب - بقيادة فرنسا على وجه الخصوص - إلى إعادة إدماج سوريا في المجتمع الدولي من خلال منظمة الاتحاد من أجل المتوسط، سعيا لإبعاد نظام دمشق عن فلك النظام الإيراني غير أن تلك المساعي لم تؤت أكلها رغم ما تتسم به من واقعية وبراجماتية.

ظهرت فئة من المحللين والخبراء الاستراتيجيين الغربيين الذين راحوا يقولون ان تجاهل الأنظمة الدكتاتورية إنما ينم عن تجاهل لأمر الشعوب والعديد من المفاتيح المهمة لتسوية الخلافات والنزاعات الاقليمية. يحذر كثير من المحللين من خطورة تقويض النظام الحاكم في دمشق في سبيل إقامة جمهورية قد تكون وهما أكثر منها حقيقة حيث ان الدكتاتورية العلمانية التي يقودها النظام البعثي الحاكم في دمشق قد تترك مكانها لنظام دكتاتوري إسلامي قد لا تعرف عواقبه الوخيمة.

ما هي الأهداف الموضوعية التي يمكن أن تحققها فرنسا على سبيل المثال؟ ففرنسا أسهمت - باسم المثل التي تؤمن بها والمصالح التي تحركها سياستها الخارجية - في الحملة العسكرية التي شنها حلف الأطلنطي على ليبيا والتي أفضت إلى سقوط نظام العقيد معمر القذافي، الأمر الذي ترك المجال شاسعا أمام الميليشيات الإسلامية المسلحة التي تتصارع الآن على السلطة. قد يجدر بفرنسا أن تعود إلى سالف براجماتيتها التاريخية فيما يتعلق بسوريا التي تعتبر الآن اخر دولة علمانية في منطقة الشرق الأوسط.

لقد راحت القوى الغربية وأغلب الدول العربية تحاول إقناع روسيا وحلفائها في مجلس الأمن الدولي بتبني قرار دولي ينص على إدانة النظام السوري الذي يشن حربا شعواء على شعبه.

في تلك الأثناء راح المحللون يتساءلون عن مدى جدوى الخيار الدبلوماسي في منظمة الأمم المتحدة.

لقد أبدى بعض الأطراف تفاؤله واعتبر أن النقاشات الدائرة في الأمم المتحدة قد تدفع روسيا للقبول بقرار دولي يدين سوريا غير أن سلطات موسكو قد ظلت تجدد رفضها القبول بمثل هذا القرار على اعتبار أن «سوريا تمثل آخر قلعة للنفوذ الروسي في العالم العربي بعد أن كانت مناطق نفوذها تشمل خلال العقود الماضية مصر والجزائر وليبيا والعراق والصومال وغيرها».

في الحقيقة، يمكن القول ان التحالفات الاستراتيجية تمثل جانبا فقط من المسألة. فروسيا والصين تعتبران أن القوى الغربية قد خدعتهما في السنة الماضية بخصوص ليبيا. لذلك فإنهما تريدان اليوم أن تردا الكيل كيلين لهذه القوى الغربية بدعوى عدم تكرار السيناريو الليبي في سوريا.

في الوقت الذي تشهد فيه منظمة الأمم المتحدة مثل هذه التجاذبات بين القوى الغربية والدول العربية من ناحية وروسيا والصين من ناحية ثانية يزداد سقوط القتلى وربما فاق عددهم الآن سبعة آلاف شخص، الأمر الذي جعل الأطراف المؤيدة للتدخلات الإنسانية يتساءلون عن سبب امتناع الغرب عن التدخل في سوريا على غرار ما حدث من قبل في ليبيا، فقد أسهم تدخل حلف الأطلنطي في الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي كما أرسى سابقة للتدخلات الناجحة باسم الاعتبارات الانسانية.

قبل ثلاثة وستين عاما من الآن تبنت منظمة الأمم المتحدة المعاهدة الدولية التي تجرم الإبادة. على امتداد هذه العقود السبعة فشل قادة العالم في الواقع في منع عمليات الإبادة في أماكن عدة من العالم تمتد من بيافرا إلى كمبوديا ومن رواندا إلى دارفور. لقد افتقر هؤلاء القادة إلى الإرادة السياسية اللازمة للتدخل وحقن دماء الأبرياء كما أن مفهوم الإبادة نفسه قد مثل أيضا العقبة والإشكالية على حد سواء. لقد اشترطت ديباجة المعاهدة الدولية التي تجرم عمليات الإبادة «وجود أدلة دامغة على وجود نية واضحة للقضاء على مجموعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية» وهو الأمر الذي حكم بالشلل على قدرة المجتمع الدولي على منع أعمال الإبادة، فعندما تتوافر الأدلة الدامغة على ارتكاب مثل هذه الأعمال المشينة يكون وقت التدخل لمنعها قد فات.

لقد بات المجتمع الدولي في القرن الحادي والعشرين في حاجة ماسة إلى إرساء مقاييس جديدة للتدخلات الانسانية، فاذا ما استمرت حكومة ما في العالم في خوض عمليات تقتيل جماعية، وإذا ما اتضح أن حياة آلاف آخرين باتت مهددة بالموت فإنه يتعين تشكيل ائتلاف من دول عدة للعمل تحت مظلة المؤسسات الدولية والإقليمية من أجل حقن الدماء ووقف عمليات الإبادة قبل أن يفوت الأوان.

لا شك أن الحرب الأخيرة التي أفضت إلى سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي - الذي أمضى ٤٢ سنة في الحكم - قد مثلت سابقة حقيقية في العلاقات الدولية. عندما أعلنت مناطق عديدة من ليبيا انشقاقها وتمردها على نظام القذافي رد هذا الأخير على ذلك بشن حملة عسكرية استخدمت فيها الطائرات والدبابات والأسلحة الأوتوماتيكية الرشاشة ضد المناطق الآهلة بالسكان في كبرى المدن الليبية فيما راح الموالون للعقيد يتعهدون بما سموه «أنهارا من الدماء». لقد كانت الأدلة القاطعة لعمليات القتل الجماعية المدعومة من نظام العقيد معمر القذافي متوافرة وواضحة للعيان.

خلال العقود القليلة الماضية تدخلت الولايات المتحدة والدول الحليفة لها بنجاح ولاعتبارات إنسانية في ثلاث مناسبات: العراق سنة ١٩٩١ والبوسنة سنة ١٩٩٣ إضافة إلى كوسوفو سنة ١٩٩٩ بعد أن اتضح أن القوات الصربية تمارس أساليب التطهير العرقي التي طبقتها من قبل في البوسنة والهرسك والتي افضت إلى ارتكاب جرائم شنيعة ضد الإنسانية. لقد حدثت هذه التدخلات الثلاثة بعد أن قتل آلاف الناس فيما جرح أو شرد عشرات الآلاف الآخرين. لقد أسهمت تلك التدخلات الثلاثة في إنقاذ حياة الآلاف الآخرين.

لم ترتق أي من الحالات الثلاث المذكورة - ولا حتى الحالة الليبية الحديثة العهد - إلى مرتبة الإبادة الحقيقية التي يقتل خلالها مئات الآلاف من الناس علما أن التدخلات الدولية قد تمت في مرحلة مبكرة نسبيا، الأمر الذي أسهم في إنقاذ حياة الكثير من الناس من موت محقق.

لا شك أن الولايات المتحدة الأمريكية ستظل تمثل محور أي نقاشات مستقبلية حول مسألة التدخل لاعتبارات إنسانية باعتبارها القوة العسكرية العظمى الوحيدة في العالم.

لا شك أن سوريا تمثل حالة معقدة على عكس الحرب التي شهدتها ليبيا من قبل والتي أفضت إلى الاطاحة بنظام العقيد معمر القذافي، فقد استطاعت المعارضة المناوئة لنظام العقيد القذافي أن تبسط سيطرتها على مناطق واسعة من ليبيا. بالمقابل فإن المعارضة المناهضة للنظام البعثي الدكتاتوري بقيادة بشار الأسد لم تنجح في بسط سيطرتها الواضحة على أي منطقة آهلة بالسكان.

* أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة