تطويرُ الأنظمة (١- ٢)
 تاريخ النشر : الجمعة ١٠ فبراير ٢٠١٢
عبدالله خليفة
تراوحتْ الحركةُ الشيعية السياسية في المشرق العربي بين اتجاهين هما اتجاه هدم النظام واتجاه تطويره، من دون وجود فواصل ومعالم بينهما، فتداخلتْ الخطوطُ واضطربتْ السياسات.
هناك حالاتٌ ضبابية أو غبشية بسبب مجمل الايديولوجيات السياسية التي ظهرت في عالم ديني محافظ في الجزيرة العربية والعراق وعموم المنطقة.
بإعتبارها جزءًا من تطور الاثني عشرية المستقلة، ونتاج حزب الدعوة في زمن غياب الإمام وبعد قيام الجمهورية الإيرانية وتشكل قيادتها كإمامِ الزمان الراهن، بحثتْ عن تطورات سياسية للطائفة، كجزءٍ من وعي الجماعة الوارثة لمنظومة أهل البيت الدينية الثقافية الكبيرة، وفي إحدى تجلياتها الكثيرة، التي عاشتْ كلها في ربوع المركزين الشيعيين في إيران والعراق، اللذين دخلا العصرَ الحديث بأشكالٍ سياسية اجتماعية مختلفة، اعتمدتْ على تطورِ كل من البلدين في مسارهِ الخاص، وعلى مدى قدرة مركزه السياسي على استيعاب التراث وتكييفه مع العصر وإيجاد تجربة وطنية تحديثية متماسكة متطورة، لكن المركزَ الإيراني حسم المرجعية السياسية وأدخلَ الطائفةَ الشيعية في سياسته، نظراً لقدراته الاقتصادية والعسكرية الكبيرة ولتشتت العراق وتمزقه.
كان جلب تجربة جماعة الدعوة إلى الجزيرة العربية وهي في مخاض التحول الغائم من كونها حزباً عراقياً إلى كونها حزباً مرتبطاً بالسياسة الإيرانية لحد عدم الاستقلال العراقي الوطني، يعبرُ عن عدم قدراتِ القيادات الشيعية السياسية على هضم التراث الشيعي وتسييسه طبقاً للحداثة والديمقراطية، وطبقاً للقومية العربية أساس وجود العرب السياسي.
وهو أمرٌ ليس خاصاً بهؤلاء السياسيين المذهبيين الشيعة ولكنه ينطبق على مجمل الحركات السياسية المذهبية الوارثة للإسلام وهي في حيرتها واضطرابها بين الموروث والعصر، فهي تكتفي بالنقل وأخذ ما هو متوارث وطافح ومبسط من المذهب، وتحريكه في عالم السياسة المعاصرة، كتحريك العبادات للدعايات السياسية.
فتحويلُ العباداتِ والموروثاتِ عامةً إلى أحداث ومظاهرات سياسية يدل على صعوبات العمل السياسي في بلدان بلا حريات، كما يدل على عدم وجود مؤسسات ديمقراطية تؤدي لتطور الوعي النظري السياسي، واستقلاله عن الدين عامة، ولكن الأهم هو عدم وجود وعي ديمقراطي حديث، قومي، ووطني. لأن الحريات تتالى والأنظمة السابقة والراهنة تتحول، فيبقى الوعي المذهبي السياسي هو غير القادر على التطور. فالعراق تغيرَ من الدكتاتورية لكن التوحيد لم يأتِ. فما هي المشكلة المحورية؟
المؤمنون سياسيون أو عامةٌ يعيشون على مستوى واحدٍ من الفهم، وهو ما جعل الحركات السياسية تختلطُ بالعامة، ولا تفترقُ عنها في قدراتِها السياسية والفكرية.
إن المراكزَ السياسية المالية في إيران والجزيرة العربية بدأت تهيمنُ على الحركات السياسية المذهبية خاصة بعد الثروة النفطية، خارج الجزيرة وإيران، وداخلهما، وكان لا بد أن يتجلى هنا الصراعُ السني الشيعي بالضرورة من نتاج جذور هذه الحركات بشكل طبيعي لأن المركز الإيراني غير العربي يصدم بالعرب، وفيض النظام يهيمن ولا يملك الدينيون ذوو القدرات الفكرية السياسية البسيطة أن يؤسسوا حركة شيعية سياسية مستقلة عن المركز الإيراني، نظراً لكون الوعي السياسي هذا عامي يعمل في السطوح غير قادرٍ على تمييزِ السياسي عن الديني العبادي، وإيجاد استقلالية للمؤسسات السياسية عن نظيراتها العبادية الدينية.
إن المراكز الأقوى سياسياً ومالياً هي التي تقود وتؤثر في غيرها، ولهذا نجد أن المركز الإيراني هو الذي يهيمن على العراق وعلى الجماعات الشيعية في العالم الإسلامي.
مثلما أن المراكز السياسية والمالية السنية في الجزيرة العربية هي التي بدأتْ تؤثرُ وتلحقُ القوى السياسيةَ المذهبيةَ السنية في العالم العربي، مثل ما حدث في لبنان لبعض الأحزاب السنية، أو لبعض الأحزاب السلفية والاخوانية في مصر التي تراوحت مراكزها وتعددتْ مرجعياتُها الجزيرية لعدمِ ظهورِ مركز سني أوحد كوجود المركز الإيراني الأوحد.
لم تكن المذاهب الشيعية أو السنية تمتلك قواعد كبيرة في الحداثة من حيث فهم العصر كعصر رأسمالي متجاوز للتشكيلة التي نبتت فيها، وكانت جذور تلك المذاهب الإقطاعية الغالبة والتجارية البسيطة لا تتيحُ لها تكوين أحزابٍ حرةٍ، مسيّسةٍ بشكلٍ حديثٍ تام، وأن تكون لها قواعد جماهيرية متنوعة من البلد المعني، كأن تكون قد خرجتْ من غرف التجارة أو المصانع أو الجامعات، بل هي نتاجُ الأحياءِ بما فيها من مؤسسات عبادية احتضنت هذه المجموعات.
ولهذا نجد ظهورها في المساجد والمراكز الدينية والحوزات، ومراكز تعليم القرآن وما شابه ذلك، وهي منابتٌ جعلتَها نتاجَ المواد الخام للواقع المذهبي، وحين دخلتْ في تطويع مفرداتها البسيطة للسياسةِ اصطدمتْ بالواقع، وراحتْ تحدثُ اضطراباتٍ لا تحولات، إلا من قارب الحداثة.
في تعبيرِ كلِ جماعةٍ مذهبيةٍ عن واقعِها الخام تشكلُ مجموعاتٍ من الفئةِ الوسطى غالباً، في ذاتِ الطائفة، وتتحركُ طبقاً لمركزِ القرار وتحولاته، وهي في غموضٍ لأدوارها وأهدافها، فهي تابعةٌ لأنظمةٍ لم تحسمْ خيارَها في التوجهِ للحداثةِ الرأسمالية، ولمفرداتِها السياسية من حرية وتبادل سلطة، ومن هنا تظلُ التوابعُ غيرُ قادرةٍ على إنتاجِ سياساتٍ ديمقراطية وطنيةٍ مؤثرة تجمع حولها المختلفين في البلد وتصنع تقدماً مقبولاً.
من هنا الترددُ بين التطويرِ والإسقاط، لكونها بعد لم تشكلْ جزءًا من الطبقة الوسطى القادرة على الانتقال لتطوير الأنظمة العربية نحو الديمقراطية والحداثة.
.
مقالات أخرى...
- طريقا الرأسمالية إسلاميا - (9 فبراير 2012)
- حول غياب ثقافة المواطنة - (8 فبراير 2012)
- البضاعةُ تقدمٌ وانطفاءٌ - (7 فبراير 2012)
- نتائجُ انتخاباتِ الكويت - (6 فبراير 2012)
- أنظمةُ تجديدٍ ملغمة - (5 فبراير 2012)
- مخاطر حرق الأوراق - (4 فبراير 2012)
- رؤى وطنيةٌ ديمقراطية - (3 فبراير 2012)
- الأيديولوجيا والعنف في المشرق - (2 فبراير 2012)
- تناوبٌ بين اليمينِ واليسارِ - (1 فبراير 2012)