الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٧٧ - السبت ١١ فبراير ٢٠١٢ م، الموافق ١٩ ربيع الأول ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

شرق و غرب


إيران و«اللعبة الكبرى» في العلاقات الدولية





امنعوا الروس من التوغل جنوبا.

لقد كان ذلك الهدف الأساسي من «اللعبة الكبرى» التي شهدها القرن التاسع عشر والتي تركزت في آسيا الوسطى، وخاصة أفغانستان. لقد أهدرت الامبراطوريات التي كانت قائمة آنذاك: البريطانية والروسية والفرنسية والصينية والعثمانية، الكثير من الثروات وتكبدت الكثير من المعاناة البشرية عندما اكتوت بتلك اللعبة الكبرى. لم تستطع أي إمبراطورية أن تخرج آنذاك منتصرة من ذلك الصراع كما أن الأمر انتهى بها جميعا إلى الانهيار في نهاية المطاف، وهو مصير كل إمبراطورية على مر التاريخ.

بعد مرور عقود من الزمن، وفي سنة ١٩٧٩ على وجه التحديد، أقدم الجيش الأحمر السوفيتي على غزو أفغانستان وبدا كأنه قاب قوسين أو أدنى من تحقيق ذلك الهدف التاريخي، أي تأمين ميناء في المياه الدافئة جنوبا. وبطبيعة الحال، فإن أسبابا ملحة أخرى دعت الاتحاد السوفيتي في أواخر حقبة الثمانينيات للتوغل جنوبا. بقطع النظر عن الدوافع الحقيقية التي كانت تحرك سلطات الكرملين فإن الروس تكبدوا خسارة مريرة ولحقت بهم هزيمة مذلة كانت السبب الرئيسي في انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك المنظومة الشيوعية. بذلك انتهت اللعبة وحسم الأمر وحصل ما في الصدور. لم تكد الامبراطورية السوفيتية تسقط من عليائها وتصبح أثرا بعد عين حتى أخذت الامبراطورية الأمريكية عنها المشعل وراحت تسير في الاتجاه الخاطئ.

تظل أفغانستان تمثل ساحة المعركة المستعصية غير أن «لعبة كبرى» ذات رهانات أخرى أكثر حساسية وأهمية برزت في منطقة استراتيجية اسمها أوراسيا، (أوراسيا هي كتلة أرضية مساحتها ٥٤,٠٠٠,٠٠٠ كم٢ وهي مكونة من قارتي أوروبا وآسيا. تشكلت أوراسيا قبل نحو ٣٥٠ مليون سنة بعد اندماج القارات: سيبيريا وكازاخستانيا وبلطيقا (التي اندمجت مع لورينتيا التي تمثل الآن أمريكا الشمالية)، تقع أوراسيا في شمال الكرة الأرضية). اسم الكتلة مركب من كلمتي «أوروبا» و«آسيا». اعتبرها العديد من الجغرافيين كقارة واحدة مثل الأمريكتين وافريقيا، حيث ان القارتين غير منفصلتين بمحيط أو بحر كبير. قسم الإغريق العالم إلى ثلاث مناطق: آسيا وأوروبا وافريقيا، وهذا الاستخدام لايزال سائداً حتى الآن. يوجد أيضاً تقسيم آخر هو أوراسيا الشرقية والغربية. تمثل أوراسيا الغربية أوروبا والشرق الأوسط، كما يضيف إليهما البعض شمال افريقيا لكون المنطقة منفصلة عن بقية افريقيا بواسطة الصحراء الكبرى. وتمثل أوراسيا الشرقية بقية آسيا عدا منطقة الشرق الأوسط منها.

لقد عادت أطراف اللعبة القديمة الجديدة على الساحة وهي تتموقع من جديد وترسم الأسهم في كل اتجاه. في خضم هذا الصراع يفكر أكثر من طرف من هذه الأطراف في توجيه ضربة عسكرية في عمق أراضي العدو.

تتركز هذه «اللعبة الكبرى» في إيران فيما تسعى الولايات المتحدة وإسرائيل - بكل الوسائل - لمنع نظام طهران من التحول إلى دولة نووية. لقد استمر الصراع على مناطق النفوذ في آسيا الوسطى في القرن التاسع عشر عدة عقود وتم حشد الجيوش الجيوش الجرارة ودفعها إلى أعالي الجبال والسهول القاسية. أما المواجهة الحالية فإنها - على العكس مما حدث في القرن التاسع عشر - قد تشهد تصعيدا خطيرا خلال سويعات، وذلك إذا ما قررت إسرائيل ضرب المنشآت النووية الإيرنية وعمدت سلطات طهران بدورها إلى رد الفعل والقيام بعمليات انتقامية سواء بشكل مباشر أو بالوكالة.

باستثناء رون بول فإن بقية المترشحين الجمهوريين للانتخابات الرئاسية الأمريكية المزمع إجراؤها في نوفمبر ٢٠١٢ قد عبروا عن دعمهم الكامل لاستخدام أسلوب القوة ضد إيران، فقد اتفق كل من ميت رومني وريك سانتورم ونيت جنجريتش على إلقاء باللائمة على الرئيس باراك أوباما واتهامه بمهادنة نظام الملالي الحاكم في طهران، رغم أن ساكن البيت الأبيض قد قال في الخطاب الذي ألقاه مؤخرا حول حالة الأمة إن «كل الخيارات تظل مطروحة على الطاولة».

لم يخف ريك سانتورم ونيوت جنجريتش ايضا تأييدهما لفكرة تعقب علماء الذرة الإيرانيين واغتيالهم. أما الخبير المختص في الأمن النووي فقد ذكر في مقال له منشور في مجلة «فورين بوليسي» أن سياسة احتواء إيران لم تجد نفعا واعتبر انه بات يتعين على سلطات البنتاجون أن تستهدف محطة تخصيب اليورانيوم في اصفهان، مفاعل اراك النووي، مواقع صنع أجهزة المركزي القريبة من محطة ناتانز وطهران. اعتبر هذا الخبير الأمني النووي أنه يتعين على الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها إما أن يخوضا حربا تقليدية الآن ضد إيران إما يدخلا في حرب نووية لاحقا ضد الجمهورية الإيرانية إذا ما اصبحت تمتلك القنبلة.

أما المؤرخ الاقتصادي نايل فيرغيسون فقد أدلى بدلوه في هذا الجدل، حيث انه يتجاوز كل الآراء المعارضة لأي ضربة عسكرية إسرائيلية لإيران ويعتبر أن الحرب الوقائية قد تكون أفضل بكثير من سياسة التهدئة مع إيران. يقول نايل فيرغيسون ايضا ان هؤلاء المنتقدين في حالة إنكار للواقع ولا يدركون تمام الإدراك ما سيكون عليه الوضع إذا ما أصبحت الجمهورية الإسلامية الإيرانية تمتلك السلاح النووي.

لنسلط الضوء الآن على البرنامج النووي الإيراني المثير للجدل إقليميا وعالميا. بطبيعية الحال هناك أطراف كثيرة تريد أن تعرف الكثير عن حقيقة البرنامج النووي الإيراني، وفي مقدمتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي ظلت تراقب هذا البرنامج على مدى سنوات.

في سنة ٢٠٠٣، اتهمت الوكالة الدولية للطاقة الذرية سلطات طهران بإخفاء الأنشطة النووية الإيرانية عن المراقبين الدوليين على مدى ثمانية عشر عاما، رغم أن هذا البرنامج أقدم من ذلك وهو يعود إلى فترة حكم شاه إيران الذي حصل على المساعدة التقنية اللازمة من الولايات المتحدة الأمريكية. إن طبيعة هذه الأنشطة النووية تشكل مادة دسمة للجدل الدائر ما بين إيران وبقية الأطراف الدول الأخرى التي تتهمها بالمراوغة، وفي مقدمتها الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

لقد ظل النظام في طهران يشدد على أن البرنامج النووي الذي تطوره الجمهورية الإسلامية الإيرانية ذو طابع سلمي وفق ما تنص عليه معاهدة منع الانتشار النووي. أما الحكومة الاسرائيلية فهي تعتبر أن سلطات طهران تخفي الحقيقة حول طبيعة برنامجها النووي وأنها قد كثفت من جهودها حتى تنضم في أسرع وقت ممكن إلى نادي الدول النووية.

أما الولايات المتحدة الأمريكية فهي تتخذ مواقفا من إيران من ناحية وإسرائيل من ناحية ثانية، فقد اعتبر بعض الأوساط الاستخباراتية الأمريكية أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية لم تبذل منذ سنة ٢٠٠٣ أي جهود من أجل إنتاج سلاح نووي. أما التقرير الذي أصدرته الوكالة الدولية للطاقة الذرية في شهر نوفمبر الماضي فقد ألمح إلى أن نظام طهران ربما يكون قد اختبر بعض مكونات جهاز نووي وهو ما شكك فيه مفتش سابق في الوكالة. أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد راحت تسرب معلومات مفادها أن إسرائيل قد تكون تعد لتوجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية وذلك سعيا لتصعيد الضغوط على نظام طهران حتى يقدم التنازلات المطلوبة.

لا تكمن المشكلة في مستوى تخصيب اليورانيوم أو في عدد أجهزة الطرد المركزي أو حتى في قدرات العلماء النوويين الإيرانيين وما يمتلكونه من مشاريع. تكمن المشكلة الحقيقية في وجود انطباعات قوية بأن إيران قد انخرطت في مسار لا رجعة فيه من أجل امتلاك القنبلة النووية كما يوجد انطباع قوي بأن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل قد انخرطتا في مسار لا رجعة عنه من أجل تغيير نظام الحكم في طهران. أما الموقف الوسط الذي اعتمدته الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية معها حتى الآن فهو يتمثل في فرض عقوبات والتدرج في تشديدها من أجل استهداف عصب الاقتصاد الإيراني: الصناعة النفطية الحيوية والبنك المركزي الإيراني. لقد أصبحت هذه العقوبات المشددة بديلا عن أي مفاوضات محتملة عوض أن تشكل أداة من أجل الوصول إلى تحقيق هذا الهدف.

كتب ديفيد كوترايت يقول في مجلة «فورن بوليسي» يقول:

«لا تبدي الولايات المتحدة الأمريكية أي اهتمام بالدخول في مفاوضات مع إيران وهو أمر قد لا يتغير في هذا الموسم السياسي، ذلك أن إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما تسعى للمناورة في مواجهة اليمين الأمريكي من أجل تصعيد الضغوط على إيران. يعتقد البعض في الإدارة الأمريكية بلا شك أن العقوبات الدولية المشددة ستظل بأيدي أولئك الذين يطالبون بتوجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية. هذه لعبة خطرة، لأنها ترمي في نهاية الأمر إلى تعميق عزلة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتزيد من خطر السقوط في الحسابات السياسية والاستراتيجية الخاطئة».

إن خطرا لسقوط في الحسابات الخاطئة يعتبر كبيرا في منطقة الخليج الحيوية والبالغة الحساسية لما تختزنه من مصالح إقليمية ودولية متشابكة، ففي الوقت الحالي زادت حدة التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران بطريقة قد تؤدي في أي لحظة إلى اندلاع مواجهة عسكرية قد تكون عواقبها وخيمة، فعلى سبيل المثال قد تعمد الزوارق السريعة التابعة للحرس الثوري الإيراني إلى مضايقة البوارج الحربية الأمريكية المنتشرة في مياه الخليج علما أن هذا الأمر قد حدث من قبل عديد المرات مثلما تطرق إليه المحلل السياسي نيفيد حسيبي في مقال منشور في مجلة «فورين بوليسي» بعنوان «تفادي الحرب في الخليج». «ماذا لو اقتربت هذه الزوارق السريعة أكثر من اللازم من البوارج العسكرية الأمريكية التي قد تطلق عليها النار وتغرقها في مياه الخليج؟ كيف يمكن في هذه الحالة الحيلولة دون تطور مثل هذه المناوشات لتسبب اندلاع مواجهة عسكرية واسعة؟».

ما هو الفرق ما بين عراق ٢٠٠٣ وإيران ٢٠١٢؟

يمثل هذا الفارق في وجود ضغوط كبيرة مناهضة للحرب داخل الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، ففي إسرائيل حذر الرئيسان السابقان لأجهزة المخابرات السرية الإسرائيلية من العواقب الوخيمة التي قد تنجم عن مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية. إن هذين المسئولين السابقين أبعد ما يكونان عن الحمائم، بل إنهما يحسبان على معسكر الصقور الأكثر تشددا في داخل الدولة اليهودية، غير أنهما يدركان مدى خطورة الدخول في مواجهة عسكرية غير مضمونة النتائج ضد إيران.

كتب ستيفن كول يقول في مجلة ذا نيويوركر:

«...بالنسبة إلى إسرائيل فإن هذا الثمن الباهظ سوف يشمل ضربات صاروخية انتقامية يطلقها حزب الله وحركة حماس ضد المدنيين الإسرائيليين واندلاع موجة عارمة من الغضب الشعبي المعادي لإسرائيل في الشارع المصري إضافة طبعا إلى تأجيج المشاعر القومية داخل إيران بخصوص البرنامج النووي الذي يرى فيه كثير من الإيرانيين مدعاة للفخر».

أما في الولايات المتحدة الأمريكية فإن صقور الليبراليين يعتبرون أن اي هجوم عسكري على إيران يمثل مغامرة خطرة وهو الموقف الذي قد يجد له صدى ومؤيدين داخل إدارة الرئيس باراك أوباما نفسها. لا ننسى أيضا أن بعض الشخصيات المعروفة التي أيدت من قبل الحرب التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد العراق سنة ٢٠٠٣ قد حذرت عديد المرات من قيام الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل بتصعيد المواجهة مع إيران.

يقول المحلل السياسي والباحث جواد هيدريان في مقال له صادر في مجلة فورين بوليسي بعنوان: «إيران وعراق ما بعد الانسحاب الأمريكي»:

«لقد اثبت العراق أنه يمثل شريكا قويا ومهما للجمهورية الإسلامية الإيرانية فيما يتعلق بالشؤون الإقليمية. لقد كانت سلطات بغداد من أشد الرافضين لفرض أو تشديد اي عقوبات أو ممارسة ضغوط دبلوماسية أو القيام بأي تدخلات عسكرية ضد إيران. لقد عبرت سلطات بغداد أيضا عن دعمها الكامل لحق إيران في أنشطتها النووية «السلمية» كما أنها ظلت تعبر عن دعمها للتسوية السياسية والدبلوماسية لمختلف القضايا والمشاكل العالقة بين إيران من ناحية والغرب من ناحية أخرى».

خلال القرن التاسع عشر كان جميع اللاعبين الرئيسيين يعتقدون أن السياسة الخارجية الروسية مدفوعة أساسا بالرغبة في التوسع الاستراتيجي جنوبا. لذا ثبت صحة هذا الكلام خلال حقبة الاتحاد السوفيتي حتى عندما طرأت تغييرات جذرية على مسرح اللعبة الكبرى وأصبح نظام موسكو يخوض أيضا عدة لُعَب ويواجه عدة رهانات وتحديات أخرى. يعتبر المجتمع الدولي أيضا أن نظام طهران سيواصل السعي إلى امتلاك سلاح نووي مهما كلفه ذلك علما أن هذه المسألة راسخة في الوعي الشعبي والقومي في إيران.

ما هو السيناريو الأسوأ المحتمل؟

لا شك أن قيام إيران بإنتاج سلاح نووي في كنف السرية التامة وتجربته سيشكلان السيناريو الأسوأ الذي يرعب مختلف الأطراف. تتساءل هذه الأطراف: ماذا بعد؟

لقد نجحت كوريا الشمالية من قبل في امتلاك السلاح النووي غير أن ذلك التطور - على خطورته - لم يتسبب في تغيير الوضع الأمني القائم في منطقة شمال شرقي آسيا. لا شك أيضا أن اليابان وكوريا الجنوبية متخوفتان من هذه الوضعية في ظل وجود ترسانة نووية في كوريا الشمالية غير أنهما لم تسعيا بدورهما إلى الانضمام إلى نادي الدول النووية. أما سلطات بيونج يانج فهي تظل تعاني العزلة أكثر من أي وقت مضى.

إذا ما نجحت إيران في امتلاك سلاح نووي ردعي محدود القوة فإن نظام طهران لن يتفوق بالضرورة على إسرائيل وبقية الدول المجاورة لأن إقدام طهران على استخدام السلاح النووي سيؤدي إلى رد فعل مزلزل.

أنا لست من مؤيدي انضمام أي بلد آخر إلى نادي الدول النووية. في الحقيقة، يتعين على الدول النووية الالتزام بما تعهدت به في معاهدة منع الانتشار النووي وتعمل بالتالي على خفض ترسانتها من الأسلحة النووية تدريجيا، وصولا إلى التخلص من فكرة النادي النووي نفسها.

إن امتلاك إيران السلاح النووي لن يحسن علاقتها مع الغرب بل إن مثل هذا التطور الخطر سيؤدي إلى تشديد العقوبات التي ستزيد من خنق الاقتصاد الإيراني، بل إن بعض أصدقاء إيران - مثل روسيا والصين وتركيا - قد ينقلبون على الجمهورية الإيرانية. إذا ما جربت إيران سلاحا نوويا فإنها قد تحقق بعض المكاسب في مرحلة أولى غير أنها ستجد نفسها بعد ذلك تتخبط في مستنقع حقيقي.

قد نسجل نقاطا ضد إيران وقد تسجل إيران أيضا نقاطا ضدنا غير أن السلاح النووي أو الحرب ضد إيران لن يحسما المسألة. لقد حان الوقت للكف عن «اللعبة الكبرى» والدخول في مفاوضات.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة