أدبني ربي (١)
 تاريخ النشر : الجمعة ١٧ فبراير ٢٠١٢
عبدالرحمن علي البنفلاح
لقد كان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وإذا كانت الأمية في أحدنا نقصاً وعيباً، فهي في حقه صلى الله عليه وسلم كمال حتى يكون معلمه هو الله تعالى وليس أحداً من البشر، كما قال الله تعالى: «... وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً» النساء .١١٣
وكما علم الله سبحانه أباه آدم عليه السلام من قبل كل الأسماء، فإنه علم ابنه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم الكتاب والحكمة، وعلمه ما لم يكن يعلم، ولم يجعل مصادره في العلم والمعرفة بشراً ناقصاً أياً كان مقامه أو علمه، وها هو الحق تبارك وتعالى يصرح في بيان واضح أنه سبحانه هو الذي يعلم رسوله صلى الله عليه وسلم، ويقص عليه أحسن القصص من قصص السابقين ليثبت بها فؤاده، وينقل إليه تجارب من سبقه من إخوانه من الأنبياء والمرسلين، ليتأسى بهم، ويتبع سنتهم، يقول سبحانه: «نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين» يوسف/.٣
لهذا، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (أدبني ربي، فأحسن تأديبي) العسكري وابن السمعاني/ منهاج الصالحين من أحاديث وسنة خاتم الأنبياء والمرسلين/ عزالدين بليق/ ص.٨١٠
ونحن اليوم مع أدب من آداب الإسلام علمه الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، ليكون بعد ذلك أسوة لأمته، بل للبشرية جميعها.
هذا الأدب ألا يعدَ بأمر من دون أن يسبق ذلك بالمشيئة الإلهية، فهو لا يملك من أمره شيئاً فضلاً عن أن يملك من أمر أمته شيئاً، ثم بعد ذلك الأمور كلها مبتدأها ومنتهاها إلى الله تعالى إذا أراد سبحانه أن ينفذها أنفذها، وإذا أراد جل جلاله أن يوقفها ويعطل أسبابها فعل، لا معقب لحكمه سبحانه، ولا راد لمشيئته جل جلاله، ويجب على الإنسان أن يتأدب مع خالقه سبحانه، وألا يعد بما لا يستطيع إنفاذه، قال سبحانه وتعالى: «ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً (٢٣) إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا» (٢٤ـ الكهف).
ومن أسباب نزول هذه الآية: أن كفار قريش سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الأسئلة التي أخذوها من اليهود في المدينة ليتبينوا صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر عن ربه تعالى، فقال لهم: غداً أخبركم ولم يقل: إن شاء الله غداً أخبركم، أي أنه لم يستثن، فأحتجب الوحي عنه مدة طويلة حتى شاعت بين الناس أن رب محمد قد قلاه أي هجره!
هذا الأدب الرباني العظيم الذي أدب به رسوله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم ما أحرانا بأن نأخذ به، وأن نتمثله سلوكاً في حياتنا، ونهجاً قويماً في كل تصرفاتنا، فالله يملك كل شيء، يملك الأفعال ويملك الأقوال ويملك إنفاذهما وتعطيلهما، وليس للإنسان أياً كان شأنه، وأياً كان مقامه شيء من ذلك.
لا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعرف الخلق بالحق سبحانه، وأنه لا يجهل أن الأمر كله بيد الله تعالى، ولكنه نسي للتشريع، كما حصل عندما صلى العصر اثنتين بدل أربع حتى يتم تشريع سجود السهو لمن سها في صلاته، فيجبر هذا السهو بسجدتين.
ولأن المعلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الله تعالى، فهو لا يستنكف أبداً، ولا يشعر بأدنى حرج، بل يشعر بشرف لا يرقى إليه شرف حين يكون المعلم والموجه هو الله تعالى، وأن يكون الحق تبارك وتعالى هو مصدر المعارف والعلوم التي يحصل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد نال الأمة الإسلامية بعضاً من هذا الشرف، وشيئاً من هذا التكريم حين جعل مصادر علومها ومعارفها هي من هذا القرآن العظيم الذي نزل من اللوح المحفوظ، ومن هذا النبي والرسول العظيم الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، ورباه فجعله على خلق عظيم، وهذا يعني أن التاريخ الصادق لأنبياء الله ورسله الكرام مع أقوامهم لا يملكه إلا المسلمون في قرآن يتلى إلى يوم القيامة، ومحفوظ بحفظ الله تعالى له، مبرأ من أي نقص أو زيادة أو تحريف «... وإنه لكتاب عزيز(٤١) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد(٤٢)» فصلت.
.