من مفكرة سفير عربي في اليابان
«الربيع العربي» والتاريخ الياباني
 تاريخ النشر : السبت ٢٥ فبراير ٢٠١٢
بقلم: د. خليل حسن
أدت تحديات العولمة السياسية، والاقتصادية، والتعليمية، إلى انتفاضة عالمية في عام ٢٠١٠، بدأت بثورة الشاي من شوارع مدينة نيويورك، لتنتقل إلى الحرائق في مدينة لندن، ولتمتد إلى الشرق الأوسط، لتؤدي إلى تغيرات في أنظمة الحكم الجمهورية، من تونس حتى اليمن، وبإصلاحات اقتصادية وسياسية واجتماعية في الممالك العربية، من المملكة العربية السعودية حتى المملكة المغربية. وقد ربط الكثير من المفكرين هذه الانتفاضات بالتحديات الجديدة لمجتمعات العولمة الجديدة، وبتمكين الشباب، من خلال تكنولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي على الانترنت، التي أوجدت بيئة لتبادل الأفكار، وتخطيط وتنظيم الاعتصامات والمظاهرات، وليتفاءل البعض ليطلق عليها انتفاضات الربيع العربي، ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل ممكن أن تتطور المجتمعات العربية من دون توافر الأعمال ذات الإنتاجية المبدعة؟ وهل من الممكن الاستفادة من التجربة اليابانية لتطوير تجربة ما يسمى الربيع العربي، وبأقل ما يمكن من الأضرار على الشعوب، واقتصاد بلدانها، وخاصة بعد أن بينت دراسة التاريخ أن الثورات والانتفاضات مع الوقت تأكل أطفالها؟
كتب الدكتور محمد جابر الأنصاري في كتابه: مساءلة الهزيمة، يقول: «الخطاب الفكري العربي لم يتجاوز بعد، بشكل حاسم، المقولات العاطفية والوجدانية، المرتبطة باللغة، والتاريخ، والمصير... «لتتحول» إلى المقولات العقلية الواقعية التي لها علاقة بالهياكل الاقتصادية، والصراع الاجتماعي، والتنمية، والسياسة الدولية». فها هو أستاذنا الفاضل يدعونا إلى مراجعة تاريخنا العربي الإسلامي، ولغتنا العربية الجميلة، بدراسات بحثية عقلية واقعية، بعيدة عن الانفعالات العاطفية. وقد نستفيد من التجربة اليابانية في دراسة تاريخها، للاستفادة من إيجابيات هذه التجربة وتجنب أخطائها. كما طور اليابانيون لغتهم بالاستفادة، قديما، من تقدم اللغة الصينية، بالإضافة إلى الاستفادة، حديثا، من اللغات الأوروبية لتطوير المصطلحات العلمية والتكنولوجية في اللغة اليابانية.
لقد بدأ اليابانيون بدراسة تاريخهم بدقة بعد هزيمة الحرب العالمية الثانية، لتؤدي هذه الدراسة إلى التغيرات الجذرية في الإنسان الياباني ومجتمعه، لتحقق الحداثة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والروحية، مع المحافظة على الثقافة اليابانية، وتجنب سلبيات الغربنة. ولم يركز الشعب الياباني في تغير نظامه الإمبراطوري، ولا في تحفظات دستوره الأمريكي النكهة، بل اعتبر الإمبراطور رمزا مقدسا لوحدة البلاد، وجزءا من ثقافته التاريخية، التي أصر على المحافظة عليها، واعتبر الدستور وثيقة تعاقد اجتماعي، يمكنه العمل من خلاله، وتطويره مع الوقت بالخبرة العملية المخلصة.
وقد قامت مجموعة من صحفيي جريدة اليوميوري شامبون اليابانية بجهد كبير، في دراسة تاريخ الحرب العالمية الثانية، للبحث عن المسئولية التاريخية لليابان في دمار هذه الحرب، للاستفادة من هذه التجربة، في تطوير يابان الألفية الثالثة، بتجنب تكرار أخطائها في المستقبل. وقد جمعت هذه الدراسات في كتاب بعنوان: «من جسر ماركو بولو إلى بيرل هاربر.. من هو المسئول؟» تصور بعد أكثر من ستين عاما تشكل لجنة من الصحفيين من الصحيفة اليومية الأكثر توزيعا لبحث المسؤولية التاريخية. وتصور لمن كان إهداء هذا الكتاب؟ أهدي الكتاب لجيرانهم الصينيين، والكوريين، وباقي دول اسيا، التي عانت ويلات الحرب والاحتلال. فقد بحث اليابانيون تاريخهم بصدق، ووعوه بضمير، ومن دون انفعالات عاطفية سلبية، واستطاعوا من خلاله أن يستقرأوا المستقبل، ويخططوه بالتعامل مع تحدياته. وقد لاحظتم، كيف تعامل اليابانيون مع خطر السلاح النووي، بعدما أعلنت كوريا الشمالية تطوير تجربتها النووية، فلم ينفعلوا، مع ان تكنولوجيتهم النووية السلمية متطورة، ومن الممكن خلال شهور قليلة تطوير سلاحهم النووي، بل أصروا على الحوار الدبلوماسي، والضغط الاقتصادي، وحافظوا على سياستهم اللانووية، بل استمروا في محاربة هذا السلاح الرهيب، الذي عانوا دماره، كما بدأ الشعب الياباني، مؤخرا، التفكير في حظر المفاعلات النووية لإنتاج الطاقة، وتطوير الطاقة المتجددة، بعد تجربة العام الماضي المريرة، من المأساة الثلاثية: الزلازل، والتسونامي، والانفجار النووي، بالمفاعلات النووية لإنتاج الطاقة.
سأحاول عزيزي القارئ في هذه الحلقات الجديدة مراجعة التاريخ الياباني، بعد أن قربت أن أنهي سبع سنوات عمل جميلة، كسفير عربي في اليابان، وبعد أن استمر انبهاري بالإنتاجية المبدعة لهذا الشعب، وما حققه من نمو اجتماعي، واقتصادي، وسياسي، وأخلاقي، وروحي، بعد عقود قليلة من دمار الحرب العالمية الثانية. واللافت للنظر أن المواطن الياباني لا يرغب في الاعتماد على الوظائف الحكومية، بل يهتم بتطوير خبرة العمل في الشركات الخاصة، لكي يستطيع يوما ما، تطوير شركته الخاصة. فهناك أكثر من ستة ملايين شركة خاصة في اليابان، ولو تذكرنا أن عدد سكان اليابان ١٢٨ مليونا، ونحو نصفهم أطفال ومراهقون ومسنون، سيبقي ما يقارب ٦٥ مليون مواطن يملكون خمسة ملايين شركة، أي كل ١٣ شخصا يملك شركة خاصة. وقد تساعد مراجعة دراسة التجربة اليابانية من جديد القارئ العربي على أن يخرج من الحيرة التي يعيش فيها بعد انتفاضات ما سمي الربيع العربي، حيث سيجد أن التاريخ الياباني لم يختلف كثيرا عن تاريخنا العربي الإسلامي من معاناة الفرقة الدينية الطائفية، والحروب الدموية الطاحنة بين ولاياتها المختلفة، والإحباط المتكرر للمواطنين. وقد نستفيد من هذه التجربة في مراجعة ودراسة حقيقة تاريخنا، لبناء مستقبل زاهر ومشرق لأطفالنا.
يعتقد المؤرخون أن شعب اليابان متعدد الأعراق وترجع أصوله إلى المغولية، مع قرابته البارزة من الشعبين الصيني والكوري، فقد بدأ الشعب الياباني، في نحو القرن العاشر قبل الميلاد، وفي عهد «الجومون»، بممارسة الصيد والعمل في صناعة الفخار، وقد تطور مجتمعهم في عهد «اليايو»، في القرن الرابع قبل الميلاد، إلى مجتمع زراعي، وبنظام ري متميز لزراعة الأرز، ثم برزوا في عهد «تولمولوس»، في القرن الرابع بعد الميلاد، كمجتمع سياسي وبقوة عسكرية. وقد عمل الديوان الإمبراطوري على تطوير الأسطورة اليابانية، لتوحيد البلاد، للمحافظة على الإمبراطور كرمز مقدس لوحدة البلاد، ليبدأ تاريخ اليابان بأسطورتي كوجيكي ونهون شوكي، اللتين ترويان قصة هبوط ابن الإلهة الشمس إلى كوكب الأرض، ليقوم أزنامي مع زوجته أزناجي، بتحريك العصاة السماوية المباركة في المحيط، لتتكون الجزر اليابانية، ولتبدأ دولة اليابان تاريخها الجديد في القرن السابع قبل الميلاد. وفي القرن الرابع قبل الميلاد، برزت قبيلة «الياماتو»، التي تعتبر أنها أصل الشعب الياباني، كجماعات منظمة في وحدات متخصصة في مجالات مختلفة كالزراعة، وصناعة الفخار، والنسيج، وإنتاج البضائع، ومحكومة بإدارة مدنية وعسكرية، ويقودها زعماء العشائر، وبمباركة الآلهة. كما تطورت في تلك الفترة ديانة الشنتو، التي تعني الطريق الإلهي، والقائمة على تقديس أرواح الأبطال، والأباطرة، والقوى الطبيعية.
وفي زهاء القرن الأول بعد الميلاد، بدأ اليابانيون التعرف على حضارة الصين وسلالاتها الحاكمة، وفي عام ٥٥٢ أدخلت الديانة البوذية إلى اليابان، انتقالا من كوريا. وخلال القرنين الخامس والسادس كانت البوذية العربة التي انتقلت من خلالها الحضارة الصينية إلى اليابان؟ ففي عهد «نارا» (٧١٠-٧٩٤) تعلمت اليابان الكثير من الحضارة والثقافة الصينيتين، وأما في عهد «هيين» (٧٩٤-١١٨٥) فقد بزغ، وتطور، وأفل، البلاط الحاكم، بينما تحولت اليابان في عهد «الكاماكورا» (١١٨٥-١٣٣٣) إلى دولة المحاربين. وفي عام ١٢٦٨، أرسل حفيد جنكيز خان خطابا لحاكم اليابان، طالبا إليه الاعتراف بسيادته على البلاد، ودفع الجزية، ولكن تجاهل اليابانيون طلبه، فقام بعدة محاولات شرسة، حتى موته عام ١٢٩٤، لغزو اليابان، ولكن جميعها باءت بالفشل، لبسالة المحاربين اليابانيين، وشدة الرياح والطوفان، التي أدت إلى تحطم سفن العدو. واشتهرت منذ ذلك الوقت تلك الرياح والطوفان «بالكاميكاز»، أي الرياح الإلهية، التي حمت أرض الآلهة.
وفي عام ١٣٣٣ بدأت حرب أهلية طاحنة في عهد «مروماشي» (١٣٣٣-١٥٦٨) أدت إلى خراب البلاد، وتوقف عملية التقدم. وفي عام ١٥٤٣، في فترة الاضطرابات الشديدة «سينكوجوا»، وصل ثلاثة من الرحالة البرتغاليين إلى شواطئ اليابان، بعد تحطم السفينة الصينية، التي كانت تنقلهم للصين. وكانوا أول مجموعة أوروبية تصل إلى اليابان، لتجدها ممزقة بحرب أهلية طاحنة، ولوردات حرب يسرقون أراضيها، وحكومة ضعيفة وعاجزة. وفي عهد «ازوشي مونوياما» (١٥٦٨-١٦٠٠)، توحدت البلاد، بعد حرب طويلة طائشة، بفضل ثلاث من القيادات القوية المتتالية من الساموراي، وهم: نوبوناجا، هايوشي، واياسو. ويفتخر التاريخ الياباني بهؤلاء الزعماء الثلاثة، ليكرر اليابانيون مقولتهم في وصف نوعية قيادة هؤلاء الزعماء بالقول: «إذا لم يغرد الطير فنوبوناجا سيقتله، وهيدياشي سيقنعه ليغرد، وأما اياسو سينتظره حتى يغرد». فقد حارب نوبوناجا بشجاعة، وكسب جميع المعارك التي خاضها، وأشتهر بالعنف والشراسة، فقد قتل أخاه وكثيرا من أفراد عائلته، وكان يحرق الجنود الأعداء بالآلاف بعد هزيمتهم، كما أنه ذبح الكثير من الرهبان البوذيين خوفا من توجهاتهم السياسية. وخلفه بعد ذلك هيدياشي، الذي حارب ببسالة وشراسة أيضا، ليوحد البلاد، وحاول غزو كوريا والصين، ولكن هزم، وتوفي بعد مرضه. أما اياسو، فاشتهرت فترته بعهد «التـوكوجاوا» أو «الايدو» (١٦٠٠-١٨٦٨)، بعد انتصاراته في معركة سيكييجارا. وقد فرض نظاما اجتماعيا يقسم المجتمع إلى طبقات تبدأ بطبقة الساموراي المحاربين، ثم المزارعين، وبعدها الصناع، ولتنتهي بفئة التجار.
وقد كانت تحدد طبقة المواطن منذ ولادته، وكان أهم تقسيم للمواطنين، هو بين العسكر السامواري، وباقي الشعب. وكان الأمراء العسكر، الشوجن، يمتلكون ثلاثة أرباع الأراضي، وجميع المدن، والموانئ، والمناجم. كما قيدت حركة التنقل، للمحافظة على الاستقرار، واحتاج السفر إلى وثائق مرور، ومنع التنقل بأي وسيلة تستعمل فيها العجلة، ودمرت الجسور لمنع حرية الحركة، وفرض حظر التجوال في المساء. وكان التعذيب والإعدام شائعين كعقاب للسرقة، وفرضت المسؤولية الجماعية وبقسوة، كما نفذت قوانين قطع الرأس لمعاقبة الجريمة، وزادت معاداة الأجانب، لتبدأ مرحلة «البلاد المغلقة». واشتد العنف ضد المسيحيين لاعتبارهم متآمرين مع الغرب، وكانوا يصلبون، ويتم إلقاؤهم في الأحواض المغلية.
وقد أدى هذان العنف والصرامة في الحكم إلى الخوف والاستقرار في البلاد، وبعدها بدأ الناس يتساءلون عن دور العسكر الساموراي في الواقع الجديد، وحس الشعب أن عساكر السموراي أصبحوا طفيليين على المجتمع. وتفهم السموراي الوضع الجديد وبدأوا بنشر أخلاقيات «البوشيدو» بينهم، وقد تزامن هذا الاستقرار السياسي مع التطور الاجتماعي والاقتصادي، فبرزت طبقة قوية من التجار، كما طورت الفلسفة الكنفوشوسية التعليم، والتفكير الذهني الإبداعي. وبدأ الشعب الياباني يتساءل عن أهمية دور الأمراء العسكر في المجتمع، وخاصة حينما برز عجزهم وفسادهم على السطح.
وفي شهر يوليو من عام ١٨٥٣، وصل القبطان ماثيو بيري إلى شواطئ اليابان، برفقة أربع سفن حربية، وبأوامر من حكومته الأمريكية للحكومة اليابانية، بفتح الشواطئ اليابانية للسفن الأجنبية، للتزود بالوقود، والتجارة الدولية. ورحل بعد أن أهمل أوامر حكومته، ليعود في شهر فبراير من عام ١٨٥٤ برفقة أسطول حربي مكون من تسع سفن، واضطرت اليابان إلى فتح الباب للخصم الأجنبي.
نلاحظ عزيزي القارئ أن اليابانيين، بعد تجربة خلافات وصراعات مدمرة، بدأوا تقبل الديانة البوذية بحكمة، مع أن ديانتهم الأصلية كانت الشنتو، بل استفادوا منها كناقلة لحضارة الصين العريقة، إلى اليابان. كما استفادوا من التعاليم الصينية الكنفوشوسية، لتطوير التفكير التحليل الذهني، وتقدم تعليمهم، ولم يسلم الشعب الياباني من حكم الطغاة ولكن عرف كيف يتعامل معهم، ويكمل تطور مجتمعه. ولنا لقاء.
* سفير مملكة البحرين باليابان
.