التعديلات الدستورية والقضايا المعيشية
 تاريخ النشر : الثلاثاء ٢٨ فبراير ٢٠١٢
بقلم: د. محمد عيسى الكويتي
إن الاحداث التي مرت بالبحرين وعصفت بحياة المواطن والمجتمع غيرت الكثير من ملامح المجتمع حتى اصبح الانسان لا يعرف المجتمع البحريني بما كان يتميز به من تسامح وتعايش وقبول للآخر، وكان المواطن مقتنعا بأهمية هذا التسامح والعيش في وطن يخدم الجميع. اما الان فان الكثير تحرر من الحاجة إلى إخفاء طائفيته فبرزت في أبشع صورها وفي تنازع واضح وجلي بين المواطنين والتنظيمات والمؤسسات والساحات والتحشيد التصعيدي.
لم يكن المجتمع قبل ذلك جنات عدنٍ، او خاليا من المشاكل والمتناقضات بل له مشاكله الداخلية السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية التي لخصناها في المقال السابق. يرى البعض ان اكثر ما يطمح إليه المواطن هو مزيد من العدالة ومزيد من الحرية ومزيد من المشاركة السياسية، وقليل من الفساد وقليل من الطائفية، وكثير من الصبر كأنها وصفات طب شعبي يضعها من يجهل جسم الانسان فيعطل اكثر مما يعالج. توضع هذه الوصفات من دون اعتبار للعلاقة الوطيدة بين تطلعات الانسان المعيشية والاصلاحات الديمقراطية التي تهيئ البيئة المناسبة المستقرة سياسيا والمحفزة اجتماعيا للإبداع والانتاج والابتكار وتمنح فرصا متكافئة للترقي والازدهار.
لا تختلف الدول وحاجتها إلى مبادئ الديمقراطية عن المؤسسات والشركات المساهمة العامة في حاجتها إلى المبادئ نفسها لتحقيق النجاح. لو اخذنا مقارنة الشركات الكبرى وكيف تدير مواردها وشئونها واستثماراتها وانشطتها نجدها تقتدي بعدد من المبادئ التي لا تختلف الا من حيث تسميتها الحوكمة الرشيدة التي تقوم على مبدأ الربط بين المسئولية والسلطة والمساءلة، وبين الاداء والمردود والمكافأة، فالشركات كما الدول تحتاج الى الاستقرار وتنمية مواردها والعدل بين الناس، كما أن التعامل في الشركات يفرض الشفافية في معاملاتها وتحديد الصلاحيات وفصل المصالح الشخصية عن المصالح العامة لكي لا يشيع الفساد وسوء استغلال السلطة. لهذا تضع الشركات حدودا لصلاحيات المسئول لكي لا يستبد برأيه فهناك ادارة تنفيذية ومجلس ادارة وجمعية عمومية يراقب كل منهم الاخر، كما ان هناك معلومات متاحة وحرية لكل عضو سواء في الجمعية العمومية او في مجلس الادارة او حتى في الادارة التنفيذية لكي يدلي بدلوه وينتقد ويحاسب ويقاضي بفضل ما تتوافر له من معلومات شفافة وموثوقة بقوة القانون.
مبادئ الحوكمة هذه التي تدار بها المؤسسات المساهمة لا تختلف في جوهرها عن عما تتطلبه ادارة شئون المجتمع والدولة. فكون المال هو مال عام في الحالتين، ومن يديره بشر، فان الضوابط والضمانات مطلوبة في كلتا الحالتين للحد من نزوات النفس الامارة بالسوء. ومن هنا تأتي مقولة ان الشعب مصدر السلطات كما هو الحال في الشركات التي تكون الجمعية العمومية (المساهمون) هي مصدر السلطات.
تقوم الديمقراطية، كما هي الحوكمة في الشركات، على مبادئ اساسية اهمها أن الشعب مصدر السلطات واستقلالية القضاء، وفي هذا الصدد هناك حدثان احدهما مداخلة الشيخ عادل المعاودة في المجلس النيابي بتاريخ ١٦ فبراير، والاخرى رسالة مفتوحة من القضاء (اخبار الخليج ١٣ فبراير).
فيما يتعلق برسالة القضاء فهذا يقودنا الى عنصر مهم في الحوكمة الرشيدة (الحكم الرشيد) وهو اهمية استقلال القضاء وقدرته على حماية الحقوق. استقلال القضاء هو مثال حي على الحلول الجذرية التي تقضي على كثير من المشاكل وهو ركيزة مهمة في منظومة مكافحة الفساد والتمييز. ما تقدم به القضاة لرؤيتهم «حول مستقبل القضاء البحريني» في رسالة مفتوحة نشرت في اخبار الخليج وتطالب في اولى فقراتها «بالاستعجال في تنفيذ الاستحقاق الدستوري بكفالة استقلال القضاء التام» من خلال تعديل قانون السلطة القضائية وبخاصة المرسوم بقانون رقم ٣٥ لسنة ٢٠١٠ ويطالبون بـ «عدم اخضاعهم اداريا او ماليا او قانونيا الى اي جهة». ومن دون الدخول في تفاصيل الرسالة فإن الغاية الكبرى التي نحن بصددها هي هذا الاستقلال الذي يؤمن للقضاء قدرته على حماية الحقوق الدستورية ومحاربة الفساد بالتعاون مع جهاز نيابي مستقل يستطيع ان يقيم دعاوى على متخذي القرارات المتعلقة بالفساد او المتورطين فيه، فهذا عنصر مهم في منظومة محاربة الفساد.
وهناك عنصر آخر للأسف فشل المجلس النيابي في ادراك اهميته لاستكمال جزء كبير من منظومة محاربة الفساد هو هيئة مكافحة الفساد التي افشلها المجلس في جلسات الشهر الماضي.
القضية الاخرى المهمة هي «الشعب مصدر السلطات» المبدأ الوارد في دستور مملكة البحرين، ففي جلسة مجلس النواب بتاريخ ١٦ فبراير التي جرى فيها تأجيل البت في التعديلات الدستورية اعترض الشيخ عادل المعاودة على مبدأ الشعب مصدر السلطات بالرغم من الحديث الشريف الذي يقول «أنتم أعلم بأمور دنياكم». يا شيخنا الفاضل، الشعب مصدر السلطات هو الضمان لاستمرار العدل والحرية، اما ان يُسَلّم الامر الى شيوخ دين يقولون ما لا يفعلون وافتى كثير منهم بما يملي عليه السلاطين فهو مناف تماما لروح الاسلام الذي وضع الامر شورى بين الناس وجعلهم ملوكا «إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم ملالُوكًا» (المائدة ٢٠)، اي ان كل انسان ملك على نفسه ومالك لقراره وحريته وكلمته ومسئول عنها وعن ادارة شئون حياته.
لا ضمان للحرية والعدالة في دولة يقودها شيوخ دين من خلال دستور يمنحهم حق التشريع، ففي الدولة المدنية الديمقراطية التي اقرها دستورنا الشعب هو مصدر السلطات، والشعب المسلم لن يشرع ما يخالف ثوابت الاسلام.
هذا فيما يتعلق بالفساد والتشريع ولا تختلف القضايا الاخرى في حاجتها الى حوكمة «ديمقراطية» من خلال معالجة دستورية في حوار يضع اسسا لمعالجة جذرية، فلا نحتاج الى انصاف حلول لا تعالج القضايا الكبرى التي اخرت المجتمع وجهود التنمية ويجب التركيز قي الحل أولا، ومن ثم في التشريعات والتعديلات الدستورية التي توجد الحل وليس العكس.
.