الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤٠٥ - السبت ١٠ مارس ٢٠١٢ م، الموافق ١٧ ربيع الثاني ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


«تقاسم الشعوب للثروات».. شعار مرفوع في العالمين المتقدم والنامي





مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية

مما لا شك فيه أن نواقيس الخطر بدأت تدق في وجه ممارسات النظام الرأسمالي، لتعلن له أن نهايته أصبحت قاب قوسين أو أدنى، فقد حث تقرير منظمة دول التعاون الاقتصادي والتنمية الصادر يوم ٣/١٢/٢٠١١، الحكومات في الدول المتقدمة على إعادة النظر في زيادة الضرائب على الثروة والممتلكات كجزء من التدابير الرامية للسيطرة على الفجوة المتسعة بين الأغنياء والفقراء، التي بلغت أعلى مستوياتها في أكثر من ٣٠ عامًا في تلك الدول. كما نوه تقرير المنظمة الذي يعد الأول منذ عام ٢٠٠٨ عن هذا الموضوع بأن الفجوة بين الأغنياء والفقراء توجد في معظم الدول الـ٣٤ التابعة لها، حيث إن متوسط دخل ١٠% من أغنى سكانها بلغ تسع مرات أعلى بالنسبة لأفقر ١٠% فيها بالمقارنة مع خمس مرات في ثمانينيات القرن الماضي. واتسعت هذه النسبة حتى في البلدان التي تنادي بالمساواة بشكل تقليدي مثل السويد وألمانيا خلال السنوات الأخيرة.

وعلى ما يبدو أن تحسين الأوضاع الاجتماعية وتحقيق العدالة والمساواة في توزيع الدخل لم تكن مطالب المحللين والخبراء الاقتصاديين فحسب، بل كانت هي الشعارات التي اجتمع عليها المواطنون العاديون، سواء ممن يعيشون في العالم الأول المتقدم أو هؤلاء الذي يعيشون في العالم الثالث النامي، وهو ما رأيناه منذ أقل من شهرين في أكثر من ٩٥٠ مدينة بـ ٨٢ دولة في شتى أنحاء العالم؛ إذ خرج الآلاف من المحتجين في يوم سمي «يوم الغضب العالمي» إلى شوارع المدن المختلفة من نيوزيلندا إلى ألاسكا، ومن لندن وفرانكفورت إلى نيويورك، بالإضافة إلى مدن عدة كبرى في آسيا وإفريقيا، واقفين في وجه رأسماليين وسياسيين يتهمونهم بتدمير اقتصادات العالم وزيادة فقرهم ومعاناتهم، داعين إلى تقاسم الشعب لثروات البلاد.

فكما رأينا المطالب الداعية لتحقيق العدالة الاجتماعية وفرض ضرائب على الأثرياء والحد من السياسات والممارسات المالية التي تسببت في معاناة الكثير، ترفع خلال الاحتجاجات التي اجتاحت العديد من الدول العربية خلال عام ٢٠١١، رأيناها أيضًا ترفع في كبرى الدول المتقدمة في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، فقد رفعها المحتجون في حركات احتلوا وول ستريت، واحتلوا فرانكفورت، وبرلين، وباريس، حتى في قلب عاصمة المال العالمية «لندن».

فما يحدث الآن من دعوة لتفجير ثورة عالمية ضد النظام الرأسمالي ومؤسساته السياسية والاقتصادية جاء من ناحية، كدعوة لإسقاط جماعات النخب المالية والسياسية المسيطرة والمحتكرة للثروة والسلطة، وجاء من ناحية أخرى، كردة فعل لتداعيات الأزمة المالية العالمية التي وقعت عام ٢٠٠٨ وامتدادًا لقناعات ترى أن العولمة تعود بالفائدة على الأغنياء أكثر من الفقراء والجماهير الكادحة، حتى أصبح هناك أكثر من مليار فرد واقعين في بئر الفقر، التي تزيد عمقًا اليوم تلو الآخر، ما عمل على اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء بشكل أسرع في أكثر الدول المتقدمة، فقد ذكرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أن في بريطانيا على سبيل المثال، أغنى عشرة أشخاص بها يكسبون الآن ضعف أشد الناس فقرا ١٢ مرة، وذلك بعدما كانت ثمانية أضعاف في الثمانينيات.ويرجع سبب هذه الزيادة إلى تضاعف إجمالي الدخل لأغنى ١% من ٧,١% في عام ١٩٧٠ إلى ١٤,٣% في عام .٢٠٠٥ كما أن أعلى معدل لضريبة على الدخل انخفض من ٦٠% خلال فترة الثمانينيات إلى ٤٠% بعد عام .٢٠٠٠

حتى في الدول الصاعدة، نجد أن مجموعة الدول المسماة «بريكس»: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب افريقيا، على الرغم مما تتميز به بأنها منذ عقد كامل تقريبًا تسجل نموا اقتصاديا مرتفعا، فإنها في الوجه الآخر لم تستفد الشرائح الأفقر من السكان من هذا النمو المرتفع، بل الطبقات الوسطى والأكثر ثراء.

فقد أصبح لدى الصين من الأثرياء ما لدى الولايات المتحدة نفسها، في حين لايزال عددهم في الهند أقل بأربعة أضعاف مما هو عليه في الصين، على الرغم من أن عدد السكان هو نفسه في البلدين تقريبًا، وبالتالي فإن مجموعة الـ«بريكس» لا تخرج عن «قانون كوزنتس» الذي يقول إن النمو الاقتصادي يؤدي إلى زيادة حدة التفاوت في البداية كون الفرص الاقتصادية غالبًا ما يستفيد منها المؤهلون والمهيأون ولاسيما التجار ورجال الأعمال، في حين أن إعادة توزيع الثروة كي تطول المزيد من الشرائح السكانية تتطلب وقتًا قد يطول أو يقصر بحسب الظروف.

ومما سبق، يتضح صدق المقولة الاشتراكية إن «الرأسمالية تحمل بذور نهايتها من داخلها»، فقد ساد بالفعل الجشع والفوضى في السوق وساد الاضطراب في العالم وازداد المضاربون على حساب ميزانيات كبرى دول العالم.

فهذه الأعداد الغفيرة التي خرجت لتهتف ضد الرأسمالية والسوق الحرة، أوجدت مجموعة من الظواهر السلبية المتفاقمة، كالتنامي السريع في عدد أصحاب المليارات والملايين في العالم، فلائحة أصحاب المليارات في العالم تشير بالنسبة لعام ٢٠١٠ إلى وجود ١٠١١ مليارديرا ينتمون إلى ٥٥ بلدًا في حين كان العدد ٧٩٣ مليارديرا في عام .٢٠٠٩

وذلك في مقابل تنام أسرع في عدد الفقراء، خاصة ممن يعيشون تحت خط الفقر، فهناك حوالي ٤٥% من الفقراء يعيشون في مجتمعات غير منخفضة الدخل، فوفق الأرقام المتوافرة عن عام ٢٠١٠ فإن نسبة المهددين بالفقر في الدول الأوروبية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مجتمعة بلغت ١٧% أو ما يعادل ٨٠ مليون إنسان، ونحو ٣٠ مليون فرد يعيشون تحـت خط الفقـر في الولايات المتحدة الأمريكية (١٥% من السكـان)، وذلك بالنسبة للعالم المتقدم، أما في العالم النامي فقد كشفت إحصاءات في مؤتمر لوزراء الشؤون الاجتماعية العرب الذي انعقد ببيروت يوم ١٠/١٢/٢٠١١ أن عدد المواطنين في الشرق الأوسط الذين يعيشون تحت خط الفقر يتراوح بين ٦٥ و٧٣ مليون شخص.. أي ربع سكان الوطن العربي تقريبًا.

وهذا الاتساع في الفجوة بين الأغنياء والفقراء نابع من زيادة مستمرة في الضرائب غير المباشرة على السلع والخدمات في مقابل تقليص مستمر للضرائب المباشرة على دخل وأرباح الشركات وكبار الرأسماليين، مما يعني تحمل الفئات الكادحة وذات الدخلين المحدود والمتوسط من دافعي الضرائب، عبء الأزمات المالية التي يقع فيها النظام الرأسمالي، في مقابل حصول القوى الرأسمالية المضاربة على أرباح متعاظمة. فبالفعل لاحظنا خلال الأزمة المالية الأخيرة أن الحكومات منحت البنوك أموالاً طائلة لمعالجة المشكلات التي أوجدتها هي ونظامها المالي والنقدي وأساليب عملها واقتطعت من دافعي الضرائب، بل أصبحت تفكر في الاقتطاع من الأموال المخصصة للرعاية الصحية والتعليم والثقافة والخدمات الأخرى وتقليص الأجور والمساعدات الاجتماعية التي توجه للطبقات الكادحة بذريعة الرغبة في توجيه تلك الأموال لإعادة الاستثمار وإنقاذ المؤسسات المالية المعرضة للإفلاس.

وعليه فإن هذه الظواهر السلبية للنظام الرأسمالي الذي نشهده في وقتنا المعاصر يؤكد واقعًا جديدًا هو تفاقم غياب العدالة الاجتماعية في الدول الرأسمالية والنامية على السواء، حتى أصبح العالم مهددًا بالمزيد من الصراعات والنزاعات المتنوعة، مما يؤثر في التواصل الاجتماعي، وهنا أصبح العالم في حاجة ماسة إلى التحرك في اتجاه رأسمالية جديدة، يكون هدفها تضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ولكن سيحول كبار الرأسماليين وممثليهم في السلطتين التشريعية والتنفيذية من حدوث المساومة على توزيع الدخل القومي بين الأجر وفائض القيمة لصالح فائض القيمة (وهو القيمة الجديدة التي تنشأ بواسطة العمل غير المأجور من قبل العامل، وهكذا يكون فائض القيمة هو أساس تراكم رأس المال)، بل يسعون بكل السبل لزيادة أرباحهم على حساب الأجور ومدخولات الأفراد.

وفي هذا الصدد، ظهر العديد من المقترحات والمبادرات، للقضاء على الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ومن أبرز تلك المقترحات مقترح الاقتصادي «غونار ميردار» الحاصل على نوبل في الاقتصاد، الذي كان يقول إن قوى السوق عندما تعمل بنفسها من دون تدخل تؤدي إلى نمو المزيد من الفروق الطبقية وتكريس فقر الطبقات الدنيا، مما ينشئ دائرة مغلقة لا يمكن كسرها إلا بتدخل الدولة، مما يعني ضرورة وجود خليط من الليبرالية والتدخلية. لكن من أجل ذلك لابد أن تكون الدولة قوية وليست دولة عصابات أو تعمل لصالح جماعة معينة تهيمن على السلطة لمصلحتها الخاصة على حساب المصالح العامة، كذلك لابد من حيازة ما يكفي من الموارد لتمويل البنى التحتية والتنمية البشرية.

ومن أبرز المبادرات الني انطلقت في الفترة الأخيرة أيضًا، المبادرة التي أطلقتها منظمة التعاون الإسلامي يوم ٢/١٢/٢٠١١ بهدف التخفيف من حدة وطأة الفقر في بلدان العالم الإسلامي، والتي تدعو فيها إلى تشجيع «صناديق التنمية الوطنية» في الدول الأعضاء على المساهمة في تمويل مشاريع المنظمة، وخاصة مشاريع التبادل الاستثماري والتجاري، لتحقيق زيادة في النمو الاقتصادي، الذي سيسهم في تخفيف حدة الفقر، ولكن لن يتحقق ذلك إلا عبر تنفيذ استراتيجيات المنظمة الداعية إلى تشجيع البرامج القائمة بشأن التنمية الريفية والأمن الغذائي.

وعمومًا فإنه وفقًا لكثير من التقارير فمشكلة الفقر المزمنة يكمن حلها في أن تحافظ الدول الغنية على تعهدها بالمساعدة بشكل أكبر بكثير من أي وقت مضى، ويمكن أن يبدأ هذا من خلال رفع مستوى اهتمام الجمهور بالقضية حتى يكون بمثابة عامل ضغط على الحكومات لتطوير كيفية تنفيذ الأهداف الإنمائية.

كما أنه من المؤكد أن الأزمة لن تنجلي بمجرد حفز الاقتصاد العالمي بمليارات الدولارات، فالعالم أصبح مطالبًا برسم سياسة جديدة تهدف للحفاظ على عمود الأمن والاستقرار المجتمعي، ألا وهو الطبقة الوسطى، وذلك من خلال استمرار الحكومات في بذل الجهود وإنفاق الأموال لدعمها عبر برامج الحفز الاقتصادي الموجهة لدعم القطاع الخاص، بشكل يدخل نشاطات أكثر إنتاجية وذات قيمة مضافة حقيقية للأفراد العاملين، وليس فقط لمالكي هذه النشاطات، بالإضافة إلى الاهتمام بمشاريع تطوير البنى التحتية، ومشاريع التخصيص والإسكان، وتطوير خدمات الصحة والتعليم، إلى جانب تشجيع الصناديق الوطنية والإقليمية والدولية القائمة على توفير المزيد من السيولة للبلدان التي تواجه أزمات سيولة، وتعزيز كفاءة الأطر التنظيمية في القطاع المالي بهدف خدمة الاقتصاد الحقيقي على نحو أفضل، وتشجيع صناديق الثروة السيادية على زيادة استثماراتها، وتسهيل التدفقات البينية للتجارة في البضائع والخدمات لتحقيق الإدارة السليمة للاقتصاد الكلي، مما يسهم في بناء تنمية مستدامة تحقق الرفاهية الاقتصادية لمختلف الفئات.

وخلاصة القول إنه يجب على الجميع إدراك أن الأهداف الإنمائية للألفية ليست مجرد أهداف نظرية أو طموحات مجردة، بل إنها تمهد سبلاً عملية لعيش حياة أفضل، حياة توفر إمكانية الحصول على قدر كافٍ من الطعام والدخل، وعلى الخدمات الأساسية تعليمًا وصحة، ومياهًا نقية ونظام صرف صحي نظيفًا، وكذلك يسهل فيها تمكين المرأة، فتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية يوفر حياة أفضل لمليارات الناس، وهي أهداف ممكنة التحقيق إذا تم تبني مجموعة السياسات التي خضعت للتجربة والاختبار، وتمت مواءمتها وفق السياقات لكفالة إحراز التقدم نحو بلوغ تلك الأهداف.. وعلى الجميع أن يضعوا نصب أعينهم كيفية تحويل الأهداف الإنمائية إلى استراتيجيات عملية.































.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة