الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤١٥ - الثلاثاء ٢٠ مارس ٢٠١٢ م، الموافق ٢٧ ربيع الثاني ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


الثوراتُ والإتجاهات الدينية





بعد سقوط تقليديين سياسيين جاءَ تقليدون دينيون، وهو ما يمثلُ لعبةَ كراسٍ طويلة بين هذين الشكلين من القوى التقليدية.

لم يستطع التقليديون في أفضل نماذجهم من تغيير البناء الاجتماعي التقليدي الموروث تغييراً ديمقراطياً شاملاً.

الحداثةُ انصبتْ على بعضِ الجوانب الاقتصادية الاجتماعية وتكونت في مدنٍ رئيسية، قامت بتحديث بعض العلاقات الاجتماعية، وفي مقاربة أكبر للعلاقات التحديثية بين الرجال والنساء، وتغيير بعض القوانين، لكن مسائل الديمقراطية الأساسية لم تُحل.

سيطرت قطاعاتٌ عامة على أجزاء كبيرة من الثروات، وصُعدتْ مذاهب معينة، أو أشكالٌ ايديولوجية تتوغلُ بالباطن فيها مذاهب دينية معينة، وتنامت علاقاتٌ قرابيةٌ حول السلطات، ولم تحدث خططٌ اقتصادية شاملة تغير حياة الملايين.

هذه كلها وغيرها جعلتْ الأبنيةَ السياسية الاجتماعية تقليديةً، لم تَنشرْ الحداثةَ الحرة، وتجمدت حياةُ الطبقات الشعبية المتضررة من التنميات العرجاء في ذات الحياة التقليدية الماضوية.

وعاشت الأبنيةُ الاجتماعية في أزمةٍ بسببِ تركز الفوائض في جماعاتٍ وتجمد السلطات في أشكال بيروقراطية لا تستطيع الوصولَ لمعاناة الناس وحل مشكلاتها.

ولهذا فإن السلطات العربية الجديدة في بعض البلدان سترثُ هذا الماضي والأجهزةَ السياسية والاجتماعية والثقافية للسابقين، وهي ذاتها محافظة تجمدُ الهياكلَ الاجتماعية والعلاقات الذكوريةَ النسوية المختلة وأوضاع الأرياف البائسة وحياة الفقراء الساكنة على ضعف الأجور.

مركزُ الشمولياتِ الدينية مختلفٌ عن مركزِ الشمولياتِ السياسية السابقة فهو يتحددُ بالشموليةِ الذكورية الحادة في العائلة، وفي الإرث والوعي، وبتغييبِ الانفتاح وعدم تغيير مذهبية الدول وتغييب القراءات العقلانية للنصوص الدينية.

تتضحُ اللغاتُ المحافظةُ في سرعةِ السيطرة على الكراسي السياسية، وإطلاق شعارات ودعوات حادة ضد الانفتاح وتعدد الحياة التجارية والسياحية والفكرية، وتتكونُ تحالفاتٌ بين دينيين مرنين ودينيين متشددين للسيطرة السياسية الكلية على الأجهزة.

وفيما كانت الأنظمةُ السابقةُ تعبرُ عن سيطرةِ قمم مدنية مفصولة عن الجمهور ومتعالية وباذخة، فإن الأنظمةَ الجديدةَ هي أنظمةٌ الفئات الوسطى في قمتها وسيطرتها ذات قواعد تمتد في الأرياف والبوادي.

والهيكلُ الاقتصادي يعتمدُ على رأسماليةِ الدولة مع انفتاحٍ أوسع على القطاعاتِ الخاصة.

وبينها وبين الرأسمالية الحرة عملياتُ التداول في السلطة وفي رأس المال الوطني لإعادةِ التجديدِ الرأسمالي الموسع للبنيةِ الاجتماعية، وهذا هو المسار المطلوب ولكن هل يتحقق؟

فهذا مرهونٌ بدفع الأغلبية الشعبية للعمل وتحديثها، لكن الجذور الريفية والبدوية الواسعة للأحزاب المسيطرة تُصعبُ ذلك.

الأوساطُ القروية والبدويةُ المنتجةُ للفئاتِ السياسية المذهبية المختلفة لم تحسمْ خياراتها كلها في تقبلِ الحداثة الحرة، وتطرحُ شعاراتٍ دينيةً من الماضي المقدس للمسلمين من أجل هيمنة سياسية واجتماعية غير محددة الملامح وهو أمرٌ سيشكل ولايات فقهاء جددا مما يعني شموليات.

وثمة فارقٌ كبير بين التوجهات السياسية التركية التي قبلت الحداثة الحرة، بسبب التاريخ الوطني التركي في مواجهة الغرب وتقليده الديمقراطي معاً، وبين التيارات المذهبية المسيّسة العربية التي لم تقمْ على مثل هذه التجربة وصارعتْ الغربَ في تحديثيتهِ وليس في استعماره.

قامت التجربةُ التركيةُ على جماهيرية التصنيع وتحرر النساء، وتصاعد الحريات السياسية والاجتماعية، وتحرر العقول من القراءات النصوصية السطحية في الدين، وتوسع الرأسمالية في الأرياف التركية.

وأُستقبل أرودغان بحماسٍ هائل في مصر ولكن حين عارض المحافظة وغياب الديمقراطية والمدنية في البرامج الدينية لم يودعُهُ أحد!

بقيام تركيا إيجاد قوى عمل رجالية ونسائية واسعة أمكن لها أن تقوم بتوسيع الصناعات لدرجة كبيرة وتحدث قفزة إقتصادية أوجدت لدى الجمهور تعاطفاً مع هذه السياسة المنفتحة.

فيما أن المذهبيين العرب لا يمتلكون مثل هاتين السياسة والثقافة الديمقراطية المنفتحة، وجاءوا من الجمهور البسيط ومن تأثيرات الحياة في الجزيرة العربية في أقسامها المحافظة، ولكنها تمتلك زيتاً كثيفاً، في حين أن تلك الدول التي ثارتْ فقيرةً ولأنها لا تملك زيتاً. وإذا جاءت الحكومات الجديدة بفرص عمل واسعة، وتغييرات كبيرة في أحوال معيشة العاملين فإنها سوف تكسب الأصوات مجدداً، وليس بالتضييق على الأرزاق والحريات.

إن أخذهم الأشكالَ المحافظة من الجزيرة العربية تم عبر عقود والعلاقات قديمة بين الحجاز ومصر وتونس واليمن، والجماهير العمالية هي التي أزاحت في الواقع الأنظمةَ السابقة، ولكن نظراً لحصول الفئات الوسطى الدينية على فرص اقتصادية كبيرة بين الجزيرة العربية وتلك الدول، وضخامة الجمهور العادي الريفي غالباً فإنها قفزتْ للسلطات.

سوف تواجه الحكومات الدينية الجديدة الكثير من المشكلات، فالبيروقراطيات القديمة لن تسلم السلطات بسهولة، وسوف تخلقُ صراعات حادة بين القوى الجديدة الدينية والليبرالية واليسارية، مع محدودية برامج الدينيين وعدم معرفتهم بقضايا الثورة الاقتصادية التقنية الجماهيرية المطلوبة والحاسمة في تبديل الدخول والأوضاع العامة وقضايا الصراعات الاجتماعية والاقتصادية والخوف من ضياع السلطات غالباً ما يؤدي للقبض عليها بقوة.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة