الفساد والديمقراطية..
 تاريخ النشر : السبت ١٤ أبريل ٢٠١٢
سميرة رجب
١٥ تريليون دولار هو ما يعادل الدين الفيدرالي لوزارة المالية الأمريكية.
طلب اللورد جيمس لورد بلاكهيث من مجلس اللوردات البريطاني، في جلسة علنية، التحقيق في أمر فساد مالي يقدر بمبلغ ١٥ تريليون دولار، بناء على أدلة كان ممسكاً بها، وهي عبارة عن ثلاث حوالات مصرفية، بقيمة ٥ تريليونات دولار، وحوالة تعادل ٧٥٠٠٠٠ طن متري من الذهب.. هذا الخبر نُشر كتابةً وشفاهةً على اليوتيوب، وتمت إزالته بعد ذلك..
www.youtube.com/watch?v=oAK٥xzEYq٧I&feature=share
وبحسب الخبر فإن هناك ثلاث استنتاجات محتملة في هذه القضية، الأولى: أن يكون هناك عملية غسيل أموال كبيرة قامت بها حكومة دولة كبرى، والثانية: قد يكون لتشويه سمعة ونزاهة البنك البريطاني «الاسكتلندي الملكي»، والثالث: هو أن وزارة أمريكية كبرى تعمل على الحصول على ٥٠ مليار دولار على الأقل في المقابل، أي انها عملية اختلاس متقنة إلى درجة غير اعتيادية، ولم يتم تنفيذها بل تم الإعداد لها من أجل توفير وسيلة تهديد لحكومة أو أكثر من حكومة، إن لم تقم هذه الحكومات بتسديدها.. ويؤكد الخبر أن كل هذه الاحتمالات بحاجة «إلى دراسة طارئة جداً».
كما يؤكد اللورد في كلامه أن «الأمر بدأ في شهري إبريل ومايو ٢٠٠٩، والحوالات المزعومة إلى المملكة المتحدة، إلى بنك HSBC بمبلغ ٥ تريليونات دولار، تليها بسبعة أيام حوالة بـ ٥ تريليونات دولار، و٥ تريليونات أخرى بعد ٣ أسابيع.. ٥ تريليونات دولار في كل حوالة. عفواً.. بل ما مجموعه ١٥ تريليون دولار يزعم أنها مُررت إلى أيدي HSBC ليتم تحويلها إلى البنك الاسكتلندي الملكي، ويجب علينا أن ننظر إلى مصدر هذه المبالغ، وما هو ماضي هذه الأموال.. أنا أحاول منذ فترة أن أتوصل إلى الترتيب الذي تم فيه تصنيع الأموال، ومن أين أتت».
ملخص القول هو أن هذه التريليونات من الدولارات، والأدلة المادية المرافقة لها، تتعلق بواحدة من أكبر عمليات الفساد المالي في العالم الديمقراطي، حيث ضخامة الأرقام تبعث على الفزع، كما تحث على الإنكار.. أي يصعب على العقل تصديق مثل هذا الحجم من السرقات، وعمليات الابتزاز، فطريقة تدوير هذه العمليات المالية تتبع أساليب وقنوات يصعب على الإنسان العادي اعتبارها أمراً واقعياً.. ولكن هذا هو الواقع..
إلا أن هناك حقيقة أخرى تسير بمحاذاة هذه الوقائع الكبرى، وهي تتلخص في الإدارة الإعلامية للعملية، حيث يجيد المجرمون أنجع علوم الإعلام والعلاقات العامة لإدارة هذه الأحجام المبالغ بها من الفساد المالي والإداري في اقتصادات الحكومات وعالم المال والأعمال بالمجتمع الديمقراطي.. فأين نحن، دول العالم الثالث «غير الديمقراطية»، من كل هذا؟..
يذكرني السؤال بشخصية عراقية مخضرمة حدّثني منذ سنوات عن الوسائل التي كان الاستعمار البريطاني في العراق يتبعها لنشر ثقافة الرشوة وسرقة المال العام في بلاد الرافدين، مع بدايات القرن الماضي، وانتقال المنطقة من الخلافة العثمانية إلى الاستعمار الغربي، حيث كانت مجتمعاتنا حينها لا تزال تتعامل بالثقة والمصداقية في علاقاتها الرسمية والاجتماعية والاقتصادية.. فيذكر أن مجتمعهم، في ظل الإدارة الإنجليزية، ابتلي بمرض الرشوة وسرقة المال العام من دون أي رادع أو عقاب أو محاسبة، بل ظهرت بالمقابل ظاهرة نقل الموظف الذي ينكشف أمره إلى موقع عمل آخر، لتفادي المساءلة، ومع مرور الوقت يزداد المرتشي، أو سارق المال العام، وجاهة مما كان يشجع الآخرين على السير على خطاه.. إلخ.
إذن تطوّرَ الفساد المالي في الديمقراطيات لتصل أرقامه إلى التريليونات من الدولارات، وغسيل الأموال، وانتشار المخدرات، والقرصنة، ونهب الشعوب واقتصادات الدول.. ووصل حجم هذا الفساد إلى ظهور المافيات والعوائل المتنفذة في الاقتصاد، وصولاً إلى الكارتلات الصناعية والعسكرية التي تتحكم في سياسات الدول، خلف ستار إعلامي فولاذي يغطي على الحقيقة، ويسيطر على العقول والقلوب..
في مجتمعاتنا البسيطة، والتي تُدعى بـ«اللاديمقراطية»، حيث مازالت القلوب مفعمة بقدر من الخير ومعايير الشرف والكرامة، تقع شعوبنا تحت طائلة هذا الإعلام الفولاذي الخطير الذي ينسب لأمتنا كل الرذائل، ويضع المجتمعات «الديمقراطية» الفاسدة في إطار جنائن العدل والعدالة، ويجعل من المساءلة البرلمانية الحل السحري الذي يُحجّم الفساد، خلافاً للحقيقة.. وهذا الخداع والتضليل نجح في تشويه علاقة الإنسان العربي مع تاريخه وحضارته وأرضه، بسبب الضعف الفكري الذي ابتلي به جيل عربي كامل، واستسلامه للإنتاج الفكري المستورد و«المعلّب»، ولثقافة التلقين، مما جعل مجتمعاتنا معرضة منذ سنوات طويلة للاختراقات الثقافية والسياسية المتتالية، وهشة في مواجهة الأكاذيب والإشاعات..
إذن نحن بحاجة إلى مراجعة ومعالجة سياساتنا التعليمية والإعلامية، لخلق مجتمع ينهل المعرفة لمواجهة المؤامرات الخفية التي يرسمها الآخرون، وتنفذها أحزاب عربية متعطشة للسلطة, كما جاء في برنامج «البحث عن مؤامرة»، للصحفي محمد العرب (تلفزيون العربية، الخميس ١٢ إبريل ٢٠١٢).
sameera@binrajab.com
.
مقالات أخرى...
- رسالة إلى الأخ السيد عبدالرحمن يوسف القرضاوي - (7 أبريل 2012)
- إلى أمين عام الأمم المتحدة - (31 مارس 2012)
- اكذب واكذب حتى تنهار الحقيقة.. - (24 مارس 2012)
- منظمات الأمم المتحدة بين الأزمة والتأزيم.. - (17 مارس 2012)
- نموذج من النظام العربي الجديد!!!.. - (3 مارس 2012)
- التكنولوجيا لدراسة التيارات السياسية.. - (25 فبراير 2012)
- مَن يموّل الأحزاب الطائفية والحقوقية في بلداننا؟ - (11 فبراير 2012)
- قضايا لا تتحمل التأخير.. - (4 فبراير 2012)
- الطائفية والانحطاط الأخلاقي.. - (28 يناير 2012)