الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤٦٨ - السبت ١٢ مايو ٢٠١٢ م، الموافق ٢١ جمادى الآخرة ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

الثقافي

الأرضُ تحت الأنقاضِ

مشاهدٌ روائيةٌ من غزو (١٦)





الأستاذ قيسُ المثقف الكويتي المنظرُ للوحدة العربية يخرج من بين الأنقاض ليجد بلده محتلا، والفوضى في كل مكان، والتعذيب شاملا، وهو يعود ليحلل ذاته ومبادئه، ويقرأها ويجسدها في مشاهد ويدخل معه عبدالرحمن المختار المناضل والضابط العراقي المزدوج يدخل معه في علاقات نارية.

٢٥

لم تكن الحراسة مشددة، استرخى الجنود بعد زمن من الشد. تطلع قيس إلى ما وراء السور. المدينةُ شبهُ ميتةٍ، شوارعُها ناضبة، وثمة خيوطٌ دقيقة لدخان. يستطيع أن يتدلى بحبل، أو يربط الألحفة بأحكام ليصل إلى الشارع.

ربطَ كلَ شيء باحكام فَوضع أسرته في مصيدة الخطر. الآن يفكر في أبيه بطريقة مختلفة، ويرى أن ذلك الدبيب الصغير كان مفيداً، في حين مرت حياتهُ كزوبعةٍ من الخطب والأتربة العنيفة والسحب الغازية الخانقة. حين كان يمر مع أصحابه على ثلة أبيه، وهم يتنحنحون ويكحون ويتبادلون أسماء الأدوية والمقالات الممتازة، كان وصحبه يكتمون ضحكاتهم. لماذا لا يتصل بهم الآن ويعرف ماذا سيفعلون؟ كيف استطاع أبوه أن يكون أبعد بصراً منه؟ لم يذهب إلى جامعة، وأكلت قدميه عصا المطوع، وقذف نفسه في البحار والسفر وحمل البضائع من الموانئ الخطرة وواجه القراصنة وجلبَ مجلاتٍ من الهند وحكايات من زنجبار، أما هو فتسلم كلَ شيء جاهزاً، وتأفف من الخشبِ وعَرق البحارة، وانحصر في أولئك المثقفين المترفعين، الذين لم يكونوا يقرأون شيئاً. أيكون قد خسر أباه؟ لم يجلس معه طويلاً، لم يسجل ذكرياته التي كان يحنلا إلى تسجيلها، وكان يبتسم في نفسه ساخراً، والآن هو يخاف أن يسجل ذكرياته.

فُتحَ البابُ فجأة، التفتْ فوجدَ خضراً يندفع وجماعة من الجند، انتزعوه من وقفته، سار في موكب سريع وعنيف بين المرضى، لمح سلمى مع جندي، مخفورةً ومحبطة، أُلقي في سيارة بين السيقان المشدودة الصلبة، تحركت بقوة وعنف وسرعة، مشاهدُ الطرقِ متقطعة، وامضة، بين الوجوه الجرانيتية، ويبدو كأن قلبَ الوطنِ توقفَ عن النبض، وما عادتْ الأرضُ ترسلُ الذبذبةَ الضوئيةَ التي اعتادها، والمتاجرُ مهجورةٌ، والوجوهُ كئيبةٌ، والسماءُ مغبرةٌ، وكأن الطوسَ أشد حزناً وغضباً، وغدت أشواكُ السعف حراباً، والعصافير المغبرة الصغيرة في مجاعةٍ من الحُب والطعام، ويحدقُ فيه وجهُ مواطنٍ عابر، فيرى نظرةً غريبةً كأنها ألف عدسة مركزة تتغلغلُ فيه، فيها منشوراتٌ وأسئلةٌ وصراخ وأشرطة محروقة، وتتوقف السيارةُ بحدة وتنهمر الأرجلُ كمطرٍ من العقارب، ويُدفع جسمُهُ بمجرى متدفق من العظام والعرق والزفير، والممرات الملأى بالعساكر تتسع بغتة، ويحسلا ان نفَسَهُ انقطع، ويشاهد صالةً واسعة وحشداً من الضباط وسحابة من الدخان والعيون، وثمة طاولات كثيرة وورق وافر وسجائر مدفونة في الرمادِ والشفاهِ والعيون، يأخذهُ الجنودُ إلى مكتب ليدخل على ضابط برتبةٍ كبيرة، يقف له احتراماً ويقول:

- ألم تصحُ بعدُ يا أستاذ؟ إننا متأسفون على خطأ الضربة، هل أنت مستعد الآن؟

يتلفتُ قيس حائراً، فيجد عبدالرحمن جالساً بقربه، وهو يبتسم بشراهة، والمكتب واسع كبير، والضابط ذو التاج، لايزال محدقاً فيه، فيرد:

- الضربة جاءت على رأسي، لكن العديد من المسرحيات لم تنطفئ من ذاكرتي، دور المهرج الكبير في روحي يا سيدي، ولهذا لم تستطعْ الضربةُ أن تزيل روح النكتة من نفسي، وأنا مستعد الآن للدور رغم أن الظروف التي خلقتموها لا تشجع إلا على التراجيديا.

يرمق الضابطَ عبدالرحمن مستغرباً، ثم يتطلع إليه برثاء:

- أنت لاتزال تعباً.

- على العكس أنا جاهز يا سيدي للتمثيل، وللترفيه عن الجنود الأبطال الذين خاضوا أشرس المعارك، هل تريد يا سيدي أن تشاهد كيف استطاع الفلاحُ العبيطُ أن يستفيدَ من الحرب؟

الضابط يجلس وهو في حالة ضيق:

- العبيط..؟! هذا ليس ملائماً للبطولة السائدة، ولكن من يدري. لابد من الترفيه المسرحي مع انقطاع البث التلفزيوني المبهج.

ثم يلتفتُ بغضب إلى عبدالرحمن:

- ماذا سنفعل بهذا الرجل؟ تأخرتم كثيراً، بدأ صبر القيادة ينفد.

- لابد من الشد على بعض نوابضه من أجل تحريك ذاكرته.

يتقدم قيس إلى المكتب، ويقفُ لحظةً صامتاً، ثم ينحني، ويقول بصوتٍ هامس:

- سوف أحدثكم أيها السادة عن الحكاية الصغيرة المؤلمة الفكهة للفلاح الغبي وهو يتحولُ إلى جندي طمعاً في بعض مكاسب الحرب، حين أخذت تصرخ عليه زوجته وتقول: لماذا تبدل ملابسك يا رجل، وتتركُ حمارَك؟ فيردُ لألحق بالجنود.

تبدأ نبرةُ قيس التصاعد والتلون مع دخوله في شخصية الفلاح، الذي يتأرجحُ في مشيته، ويتأتى قليلاً ويعرج، وهو يسير في الطابور بعكس اتجاهه، وهو يطلقُ النارَ في الهواء ويسقط سعف النخيل والحمام، يقول قيس الراوي:

- لم يستطع الفلاح بسهولة أن يفرق بين المحراث والرشاش، وبين الحمار والدبابة، وراح يطلق النار على الأشجار حاسباً إياها أعداءً متخفين، ويلاحقُ البط في الترع، ويحسب أثدي النساء قنابل، وأصاب أكثر من فتى يعمل ويلتقط الثمار القليلة، لكن جريه قاده إلى طريق آخر عن الجنود المحاصرين ووجد نفسه جائعاً، فأطلق النار على دجاجة وأصاب قائد العدو ففر جنده، ورُفع على الأكتاف، ودخل الجيش فاتحاً.

قال الضابط مبتسماً:

- إنه يفيدنا بهذا الشكل أكثر منه كونه مفكراً.. أليس كذلك يا عبدالرحمن؟ إنها كارثة لو علم الرئيس بذلك. هل أنت تستغبينا إلى هذا الحد يا سيد قيس؟ لماذا لا تجرؤ وتقول إنك تخليت عن كل التزاماتك القومية، خنتَ تاريخك العظيم كله؟

صمتَ لحظة ثم انفجر:

- إنه يحتاج إلى وجبات دسمة لكي يفرق بين الرئيس والفلاح الغبي.

- أعتقد بعد طول معاناة ان هذا الرجل التبس علينا برجل آخر في ظل الاختلاط الحاد في الأشخاص والموتى والمواقف والخرائط.

- لم أكمل لكم العرضَ، لقد عاد الفلاحُ الغبي إلى بلاده فلم يجدها، أقصد أن قريته احترقت، وقُتلتْ زوجته، ولم تنفعه النجمةُ التي حصل عليها، ولكنه لم يفهم ولايزال مستمتعاً بالضوء الحارق الذي وُضع على كتفه٢٦

سحابةٌ كبرى تظلل الأرض، وسحاباتٌ كثيفة تزحفُ من الشمال والمطر ينتشرُ وفي جوفهِ رصاصٌ ودوي.

نسوةٌ انتشرن من الأفق للأفق، في وسطهن زوجة قيس، امرأة عتيقةٌ تمتدُ إلى زمنِ جلجامش وربما سرقتْ الخلودَ من الحية.

كل من حولها بالعباءات السوداء الملأى بالبروق وهي بفستان هادئ مثل غيمة عاقرة. الشعرُ الأبيضُ يتحدى هواءَ الخريف، قامتُها الهشة تهتز. ماذا ستفعل حين يَطلقُ الرصاص؟

الجنود فوق السور، بنادقٌ كثيرةٌ موجهة إلى إزالة الخصوبة، يطلقون في الهواء قرب شعور النسوة ورؤوسهن المتلفعة، لكنهن يتقدمن.

القصرُ ممتدٌ وأقبيته امتلأت بالرجال والنساء والصبية.

صورُ الموتى والسجناءِ والمفقودين والهاربين الكثيرة تتقدم وتتكلم.

الرصاصُ يئزُ ثانية. تسقط واحدة وتنحني أخرى وتصرخ ثالثة.

يرتجف، كان يحبلا أمَّهُ كثيراً، هي التي بقيت من الذكور الكبار، وحملت العائلةَ وسط المذابح الستينية الرهيبة، وحمت كتب أخيه وقدمتها له ليواصل الدر

ترتجف الأرض، خطوط مثل شرايين الأنهار تتغلغل وتهز السور، وتنتشر في الجدران هزات عصبية وشروخ وكلام حارق.

السماءُ المليئةُ بالغيوم تتفجر، ثمة أزيزٌ مخيف، الرعود والبروق تشعلُ وجوهَ النساء، بعض العباءات تنتفخ حتى تصير مثل المناطيد وتطير فوق البلاد الدامية مثل حَمام هائل قادم.

الجنود يطالعونه برعب.

مجموعاتٌ من اللصوص والمجرمين اغتنوا فجأة ويتحسسون طرقَ الهرب للمدن البعيدة والصحارى المألوفة والجبال ذات الكهوف التاريخية لكنها كلها مسدودة بحقول الألغام والمدرعات المعادية.

النساء يتقدمن، صيحات من أجل الابناء والأزواج والبنات المغيبين.

يَجر قيساً من قبوه، ربطه بحبل وراح يسحبه:

- من صَنع الفتوح مجدداً؟ ألم تكن تربي هذا الجيل الوغد الذي فجرَ الشوارعَ بالملايين ثم تبخر؟ صاحوا وفجروا وتشاجروا وذَبحوا وذُبحوا ثم تخلوا عن الأرض والعرض وجعلوا الخريطة يأكلها النملُ الأجنبي. أين هم الآن؟ جاءهم الطاعونُ فتواروا في التراب والمناصب والمزابل. اصرخْ لكي يظهروا من الثلاجات والسيارات والخمارات.

- من أنت يا عبدالرحمن؟ أقومي أم شعبي؟ أقاتل أم مقاتل؟ أجلادٌ أم متسلل حاقد في صفوفنا؟

- ها قد رجعتَ لألفاظك القديمة، فقلْ للنساء انكَ من صنعتَ كل هذا الجنون. ألم تكونوا المخبولين الذين آمنوا بالزعيم؟ ارفعْ صورتَهُ الآن للنسوة، هيا، هذا المسدس في ظهرك، بجلهُ وقبلهُ أمامهن، لتجعلَ زوجتك تنتحرُ في سن اليأس السياسي، وابنتك يُغمى عليها وولدك يتحول لِدور الطربِ المتمايل بدلاً من تطويل اللحية المغبرة، هيا ليس لدى الغيم والرعد والمطر وقتٌ، غداً تهبُ العواصفُ لتأخذكم جميعاً إلى هوة الشيطان، يا من صنعتم كل هذا الجنون، قّبلْ هذا المجرمَ وأخرسْ هؤلاء النسوةَ اللاتي تبرعن بحليهن وحصالات نقود أولادِهن لهذا الوحش الذي بلعَ الملايين.

- من أنت حقا؟ ألا تخاف من هذه الطائرات التي تملأ السماوات القريبة؟ اهربْ مثل آلاف الهاربين من هذه المصيدة التي يعدونها لكم وتصير أكبر مقبرة في التاريخ تلتهمُ العظامَ والآلات التي كدستموها عقوداً.

- هل تقبلُ الآن أحذيةَ الغزاة الأجانب؟ نصف قرن وأنت تحرض وتقتل وتحرق ضدهم ولطردهم وقتلهم ثم تزحف الآن على بطنكَ من أجل جلبهم.

يدفعه بقوة، يكاد يسقط، يترنح، وينزلق من فوق الجدار.

عبدالرحمن يمسكُ يدَه.

النسوة يحدقن في المعلق المهتز الذي يكادُ يسقط، وترتفع أصواتهن، ويتفجر الغيم، ويدوي البحر، وتنطلق اهتزازات حادة مثل البروق المعدنية على الشواطئ.

يمسكهُ بقوة، يسحبه بصعوبة.

- ماذا تقول الآن في كل تاريخك الوسخ، تاريخ صناعة الطغاة؟

- من أنت حقا؟

- أنا من حاربتموه، أحملُ كلَ أقنعة الحمالين والشعوبيين والمخربين الحمر، أنا لم أزلْ في عروقِ الصخور، لم أمتْ من السحل وطوفان نوح، وسأبقى لأسخرَ من كل تاريخكم.

- أكاد أسقط، فدعني أستشهد.

- تعالْ، الجلادون لم يشبعوا بعد من لحمك.

(يتبع)



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة