الماديةُ والعلوم (١)
 تاريخ النشر : الخميس ١٤ يونيو ٢٠١٢
عبدالله خليفة
في إنتاجِ دكتاتوريته الفردية يصعدُ لينين صراعَهُ ضد التعددية في الحزب، فيقسمهُ، ويصعدُ صراعَه ضد التنوع الديمقراطي في الغرب فيغدو الغرب برجوازياً لابد له من شيوعية نافية له بكليته.
لكنه أيضاً يتوغلُ في مجال العلوم ويواجه تعددَ المدارس والتيارات الفلسفية المثالية العقلانية والمادية التجريبية من أجل اكتساح المادية الجدلية للمسرح الفكري. لكن أي مادية جدلية لديه؟
ظهرت في أواخرالقرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين مدارس وحركات علمية عديدة لا تنطلق من المادية الجدلية بل من وعي علمي مختبري ومن غوص تجريبي في العقل ومن استخدام اللغة في تحليل منتجات العلوم الطبيعية.
كانت مدرسة(التجريبية المنطقية) تتوجه نحو دراسة الظاهرات الطبيعية بأشكالٍ جزئية تجريبية، حيث تفصلُ الظاهرةَ العامة عن كلية الطبيعة، وتدرس عناصر التجربة، لاستخلاص نتائج موثقة.
تعارضُ هذه المدرسةُ أفكاراً ومسلمات إطلاقية من أجل أن تموضع الدراسة، وتحللَ الشيءَ أو الظاهرة، ولهذا رفضت مفاهيم مثل(المادة) و(الجوهر) معتبرة إياهما آراءً قديمة غير نقدية.
(إن اللون هو موضوعٌ فيزيائي إذا أخذنا بعين الاعتبار تبعيته لمصدر النور الذي ينيره للألوان الأخرى والحرارة والمكان الخ، ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار تبعيته لشبكية العين فأمامنا موضوع نفساني إحساس).
إن التجريبية المنطقية تقوم بدرس هذين الجانبين المواد والأشياء عبر صلاتها بالأحساس والجهاز العقلي البشري:
(إن الصلة بين الحرارة والنار تخص الفيزياء في حين أن الصلة بين(العناصر) وبين الأعصاب تخصلا الفيزيولوجيا، ولكن لا هذه الصلة ولا تلك توجد بمفردها بل توجد كلتاهما معاً).
هذا ما يقوله الفيلسوف الإلماني ماخ في القرن التاسع عشر الذي ينقله لينين في كتابه (المادية والنقد التجريبي) ص ٥٣، دار التقدم، موسكو.
فيقسم النقدُ التجريبي عمليةَ المعرفةِ المتأتية من العلوم إلى عناصر شيئية، وعناصر تفكيرية.
ويقول مفكر روسي موجزاً هذا(الإحساس مُعطى لنا أصدق من الجوهرية). بمعنى أن المطلقات هي خارج عملية البحث والتحليل للأشياء.
يعبرُ لينين عن اختلافه بطرق هجومية حادة ويقول محدداً وجهة نظره:
(يجب القول إن كثيرين من المثاليين وجميع اللاادريين.. يلقبون الماديين بالميتافيزئيين لإنه يخيل إن الاعتراف بوجود عالم خارجي مستقل عن إدراك الإنسان يعني تخطي حدود التجربة. وسوف نتكلم في حينه عن هذه التعابير وعن خطئها التام من وجهة نظر الماركسية)، ص .٦٤
لا يحلل لينين بدقة مسألة وصف الماديين بالميتافيزيقية هنا، ويخلطُ بين(إن الأشياء مستقلة عن وعي الإنسان بالمطلق)، وبين أن الأشياءَ ليست مستقلةً عن وعي الإنسان النسبي.
إن انفصالَ الأشياء والطبيعةِ عن الإنسان هو أمرٌ موضوعي، لا جدال فيه، ولكنها ليست مستقلة عن وعي الإنسان التاريخي حين يتعامل معها ويحللها ويحاول اكتشافها.
وهكذا كان العلماء القدماء لا يفصلون أفكارهم وعقائدهم عن تحليل المواد، في حين وصلت العلوم بين القرنين ١٩و٢٠ إلى عمليات متقدمة لفصل الوعي الذاتي للباحث عن المادةِ المدروسة.
ومن الممكن بهذا أن يقعَ الماديون في عالم الغيب الاجتماعي السياسي كما سيحدثُ للينين نفسه.
ومن هنا تتعاظمُ أهميةُ هذه القراءة للاحساس، ولتحول الانطباعات إلى معرفة، والتركيز على التجربة، التي لها أدوات ومستويات وتطورات في أجهزتها والتي تغدو ملغيةً لمعلوماتٍ وآراء سابقة نظراً لهذه الصلة بين المُعطى والتجربة.
لهذا تغدو العلومُ الطبيعيةُ منفصلةً عن الفلسفات والأديان والآراء المسبقة، وتغدو الفلسفات مستفيدة من خلاصات هذه العلوم ومستثمرة لها في وجهات نظرها.
من الممكن أن يكون هؤلاء الباحثون مثاليين ودينيين وماديين من مختلف التيارات، بسبب أن نشوء العلوم في الغرب جاء من وعي مسيحيين ويهود ومؤمنين عامة، وهؤلاء حاولوا الارتقاء بالعلوم وعدم الاصطدام مع أديانهم وحجموا دلالات ونتائج العلوم وربطها بالصراعات الاجتماعية. لكن لينين ينطلق من رؤية حادة لإزالة الأديان والاستغلال من دون وعي علمي حقيقي، فيؤدي إلى تجربة مغايرة لما يريد.
خذ مثلاً ما يقوله لينين نفسه عن الأثير وعلاقته بالوعي:
(وهذا يعني إنه توجد خارج عنا، بصورة مستقلة عنا وعن إدراكنا، حركة للمادة، مثلاً، موجات الأثير ذات الطول المعين والسرعة المعينة، التي يولد في الانسان، بتأثيرها في شبكة العين، الإحساسُ بهذا اللون أو ذاك)، ص .٥٤
إن حركة المادة العامة المجردة هذه صحيحة التأثير غير أن(موجات الأثير) هذه غير موجودة في الطبيعة نفسها، أي أن هذا المصطلح من مفردات مدرسة علمية قديمة تم تجاوزها فلم يعد هناك شيءٌ اسمه موجات الأثير! لقد جرت تجارب علمية في أواخر القرن التاسع عشر أثبتت غياب هذا المُسمى، وبدأت نظرياتٌ علمية جديدة، ولكن مع غياب متابعة لينين:
(لقياس سرعة الموجات الكهرومغناطسية، قام ميكلسون ومورلي بإجراء تجربتهما الشهيرة سنة ١٨٨١وقد كانت هذه التجربة من أشهر التجارب في القرن التاسع عشر، التي أدت إلى ثورة علمية لأن نتائجها كانت تعاكس تماما أفكار الباحثين المؤيدين لفكرة الأثير).
بطبيعة الحال إن العديد من باحثي النقدية التجريبية مثاليون ومحافظون وبينهم باحثون مناضلون في نقد وتحليل العالم الطبيعي والاجتماعي كذلك، لكن التعددية واستثمار العلوم ونتائجها وتطويرها بالنقد يوجد شبكات تحليل واسعة للحياة في مختلف جوانب المعرفة.
.
مقالات أخرى...
- إلتقاءُ الطائفيين بـ (اليساريين) - (13 يونيو 2012)
- رأسمالياتُ الدول العالمية - (12 يونيو 2012)
- الاستعمارُ والديمقراطيةُ (٢-٢) - (11 يونيو 2012)
- الاستعمارُ والديمقراطية (١-٢) - (10 يونيو 2012)
- التحديثُ من قلبِ المدن - (9 يونيو 2012)
- هل هي ثوراتٌ أم غزوات؟ - (8 يونيو 2012)
- العوامُ الخطرون - (7 يونيو 2012)
- فئاتٌ صغيرة تابعة - (6 يونيو 2012)
- الناصريون والساداتيون - (5 يونيو 2012)