سوريا وتفاعلات أزمة الطائرة التركية
 تاريخ النشر : السبت ٧ يوليو ٢٠١٢
بقلم: حسن الأسود
تتحرك إرهاصات الأحداث في سوريا بشكل دموي ومقزز على مستوى الداخل بينما الوضع على المستوى الدولي مازال غير معروف مدى جدية خياراته لحلحلة تلك الأزمة المتفاقمة، وهنا لابد من مراعاة أن يأتي الحل على قاعدة ضوابط الأعراف الدولية وبعيداً عن حسابات معادلة الربح والخسارة لمصالح القوى الكبرى في عملية أي تغيير، ومع ذلك تبقى الحالة المأسوية التي يعيشها أهلنا في سوريا مُلحة بالفرض على المجتمع الدولي والإنساني لإيجاد مخرج يحمي المدنيين ويبعدهم عن الاشتباكات المتصاعدة وتيرتها بين العسكريين يوما بعد يوم.
إن أهلنا في سوريا هم في واقع الحال باتوا ضحية لصراع توازن قوى دولي على أرضهم وسوف لن يكون من السهل تغيير هذه المعادلة أو تراجعها في ظل توازن ميزان القوى الدولي القائم ولذلك فانه من المستبعد أن ينجح أي مؤتمر دولي أو مسعى ما لم تتم صفقة لتوافق القوى الكبرى على معادلة اقتسام المصالح تحفظ لكل طرف ما يراه مناسباً من خيارات مستقبلية وتوجد له موطئ قدم في ذلك البلد العربي الشقيق،ومن الواضح أن المجتمع الدولي منقسم على نفسه تجاه الأزمة السورية إلى ثلاثة بيادق منها من يريد إيجاد حل فعلي لأزمة سوريا ومن دون تخطي الشرعية الدولية وضوابطها في الاعتراف بشرعية النظم الحاكمة وعدم إسقاطها بالقوة وأصحاب هذا الخيار يضعون في الاعتبار النزعة التسّلطية للدول الغربية وجنوحها للهيمنة على مراكز صنع القرار في البلدان وتوجهها الاستراتيجي المستجد لإعادة توازنات الواقع السياسي الإقليمي، ومع ذلك فان هذا الطرف أيضاً لا يخلو من تداخل في بعض محاوره التي تسعى لدعم النظام حتى لو اجمع الشعب على رحيله وذلك لحسابات سياسية لا علاقة لها بالرفض فقط للهيمنة الغربية على المنطقة، وطرف اخر يريد إيجاد حل ولكن تحت ضرورة إسقاط النظام وإعادة صياغة مشهد القيادة السياسية السورية وبما يتفق مع تصورها للمشهد الذي يجب أن تكون عليه المنطقة في المرحلة القادمة، وهناك طرف ثالث وهو غير ظاهر بشكل فعلي على الساحة يسعى لشرذمة الوضع السوري وجعله يسبح في وضع الاستنزاف ومعادلة أن لا غالب ولا مغلوب لأطول فترة ممكنة من الزمن حتى ينهك ذلك البلد ويُقضى على كل انجازاته التاريخية وصولاً إلى مرحلة التقسيم الديمغرافي والجغرافي.
ان المنطق السياسي السليم هو الذي يُقدّر خطورة الانزلاق بالشعوب للتصادم حتى كسر العظم وضرر ذلك على البلدان مثل هذا المنطق لا يُبنى على نزعة الميل للهوى والانتقام في تشخيصه للواقع المضطرب بل يأخذ في حسبانه الحالة المرحلية لاحتقان الدم وفورانه ونزعة الأطراف المتصارعة حينها للغلبة وميل كل منها إلى تغليب وجهة نظره بعيداً عن حكم المنطق وما يقتضيه من ضرورة إيجاد حل توافقي يعمل بمبدأ اعطاء التنازلات والتكييفات النسبية للحلول وصولاً إلى حالة الهدوء والقبول النفسي مع تقادم الزمن، أما من يُعطي لنفسه من الأطراف الخارجية الحق في دعوة نظام حكم إلى التخلي عن مهام حكم بلاده لتترك للفوضى والتجاذبات الخارجية في تشكيل قرار ذلك البلد وإعادة صياغة منظومته السياسية والفكرية فتلك في تقديرنا صفاقة ، كما أنها خارجة عن حدود بروتوكولات الأعراف السياسية والدبلوماسية وضوابط القانون الدولي.
بمعنى أن ليس من حق احد أن يدعو نظام دولة إلى التنحي عن دفة حكم بلاده وتسليم السلطة لمعارضيه رغم أن ما هو حاصل على الأرض السورية من استنزاف وولغ للقيادة في سفك دماء الناس يُلقي بظلال حتمية للتوقف على مدى شرعية الحكم القائم وجواز حكم شعبه تحت ضوابط الأعراف وقواعد حقوق الإنسان، وليس بخفي ان سوريا تتعرض لحملة غربية وأمريكية لاضعاف هيبة وقوة النظام في الداخل وبما يدفع لتحقيق مصالحهم في إسقاط النظام والإتيان ببديل يكون أكثر تجاوبا مع الإرادة السياسية الغربية وخصوصا فيما هو متعلق بعملية السلام في الشرق الأوسط وموقف الجانب السوري من القضية الفلسطينية وحقوقه في مياه بحيرة طبرية وهضبة الجولان، فالنظام في سوريا ورغم ضعفه تجاه إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة فانه استطاع أن يُحافظ على توازناته من الانزلاق بالمنطقة لأي تصادم مع إسرائيل ومن دون أن يرمي بأي ورقة من أوراق الضغط السياسي التي تُتيحها له الشرعية الدولية في مواجهة إسرائيل ، ومع كل ذلك التاريخ تبقى الأوضاع التي انزلقت لها سوريا من استنزاف للدماء حقيقة يجب التوقف عندها والتسليم بضرورة حصول التغيير وبالمستوى الذي تطمح له القاعدة الشعبية في سوريا وفي ضوء الثوابت الوطنية للبلد وتاريخه الممانع.
إن الشعب السوري وتحت وطأة ذينك الاستنزاف والبطش لا يمكن أن يُلام مرحليا لو تطير بخيار التقارب مع إسرائيل في سبيل تغيير وضعه وان كان ذلك خيارا خاطئا بكل المقاييس، وبالرجوع إلى تعالي الوتيرة الدولية في حل قضية سوريا ومستوى تصاعد الحراك السياسي في ذلك فان الأزمة في هذه المرحلة شهدت حدثين بارزين:
الأول: وهو يدخل ضمن حسابات الدفع السياسي المبرمج للتغيير في سوريا.
الثاني: فقد دخل على إرهاصات الأزمة بشكل مفاجئ وتبدو مؤشرات الإرباك السوري واضحة في حدوثه، والأول هو مؤتمر جنيف المعني بالشأن السوري الذي لم نتلمس قبله حالة حقيقية من تقارب القوى الكبرى لإيجاد تسوية ما لحلحلته ولذلك كنا نعتقد بعدم خروجه بعمل ملموس، أما الثاني وهو حادث إسقاط الجيش السوري للطائرة العسكرية التركية، ذلك الحدث الذي نعتقد ان صانع القرار السوري لا يتمنى حدوثه في مثل هذه الظروف التي تمر بها سوريا وإنما في تقديرنا ذلك قد حصل نتيجة للإرباك الذي تعيشه القيادة العسكرية السورية في هذه الأيام رغم قول الأتراك بغير ذلك، فهذا الحدث هو ما قد يُمنهج ويُدفع من خلاله بالتصعيد العسكري التركي المدعوم بالناتو ضد سوريا إلا انه من الواضح أن القيادة السياسية التركية ومن خلال تصريحاتها المتناقضة بعد الحادث هي تتلمس جيدا أن الشعب التركي غير متحمس للدخول في صراع مع السوريين على أساس ما يجري في سوريا وذلك لعدة مؤشرات يرصدها الشارع التركي جيدا ويرى أن هناك تداخلا خارجيا بشأن الوضع السوري، كما يقدّر ذلك الشارع أن ما جرى اليوم من إسقاط الطائرة يختلف تماما عن قضية عبدالله أوجلان التي كانت فعلاً تمس الشعور القومي التركي وهيبته، يومها هدد الأتراك جوارهم السوري بتسليم أوجلان وإلا اجتاحت تركيا سوريا خلال ثمان وأربعين ساعة وفعلا استجاب السوريون لذلك رغم تمنعهم في بادئ الأمر فالوضع هناك فارق في قياسه واعتباراته بينما في حادث إسقاط الطائرة فظروف الحدث وتداعيات المشهد الدولي على المنطقة ومنه الضغط الغربي الموجه لاستنزاف سوريا ومدى تحرر السياسة التركية من الضغوط الغربية للولوج في الوضع السوري كل ذلك يضع علامة استفهام لدى الرأي العام التركي مما يجعله غير متحمس لسياسة قيادته للتصعيد ضد جواره.
ومع تزايد مظاهر الحشد العسكري التركي على الحدود مع سوريا إلا أن اردوغان وحكومته في اعتقادنا يتخوفون من خيار الانخراط العسكري المباشر في سوريا خشية أن تنزلق الأزمة السورية للمنحى الطائفي وتتأصل ومن ثم تنعكس إرهاصاتها على الواقع التركي وذلك بسبب تماثل جزء كبير من تباينات التركيبة السكانية التركية مع واقع التركيبة السورية.
.