الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥٢٥ - الأحد ٨ يوليو ٢٠١٢ م، الموافق ١٨ شعبان ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


تداخلُ الاشتراكياتِ الخيالية





لم توجد فواصلٌ بين التصورات الاشتراكية المختلفة، فالتقسيم بين الاشتراكية الخيالية والاشتراكية العلمية تهاوى، لأن الاشتراكية كنظام اجتماعي غير قابل للوجود حاليا، والمدى مفتوحٌ لإصلاحاتٍ تحولية على النطاق البشري التاريخي.

وقعَ الروادُ الأوائل في تناقضٍ بين ما هو نسبي وما هو مطلق، فتحولُ البشر لعمالٍ هو أمرٌ تاريخي ولكنه مطلق، لأن الانتاج هو المركزي الذي يضم البشر لدائرته، بحيث ان الذين لا يعملون ينفصلون عن مسار الناس، لكن هذا التحول يرتبط كذلك بازدهار الرأسمالية، ووصول تقنياتها وتطويرها للقوى المنتجة إلى كل زاوية في العالم، حتى تتشبع الكرة الأرضية ويصعب أن يستمر هذا الأسلوب، كيف؟ لا نعرف، وربما نتكلم فقط في مجال الاحتمالات.

ولذا فإن تحقيق الاشتراكية الراهن قاد لمغامرات كارثية وتقدم وضحايا.

عندما قام من سموا بالاشتراكيين الخياليين كسان سيمون وروبرت أوين وشارل فورييه بمشروعاتهم فقد أقاموها على كونها حقول تجارب سلمية كبناءِ بنوكِ تسليفٍ ومستعمرات إنتاجية وهي كلها انتهت بالفشل وإفلاس أصحابها وظلت كتبهم وتجاربهم مفيدة للناس بدون أن تؤدي إلى كوارث وحروب وهم فقط من تحمل خسائرها.

ولهذا فإن الدعوة الماركسية التي جاءتْ على أساس أنها تؤسس اشتراكيةً علميةً عاشتْ في حيرةٍ ايديولوجية كبيرة، فبالتأكيد أن الأسلوب الرأسمالي للإنتاج مليء بالتناقضات العميقة ولا يمكن للبشرية أن تعيش بين أقلياتٍ تتكدسُ لديها الفوائض الهائلة وتهدرها وأغلبيات تعيش في ظروف صعبة، فهذا التناقض لا يمكن أن يستمر إلى الأبد.

لهذا فإن الاشتراكيين الماركسيين انقسموا بين دعاة الإصلاح التدريجي ودعاة الثورة لتغيير هذا النظام كليا. ونحن نعرفُ مصيرَ كل من القسمين، لكننا نقرأ المنهجيات هنا.

فعلى أي أساس أُقيم العلم في هذه الاشتراكية؟

التحليلات النقدية للرأسمالية ماضيا وحاضرا هي مقاربات موضوعية، لكن الاستنتاجات المستقبلية السياسية لم تكن على أساسٍ صحيح.

وفي حين تقود الرؤى الإصلاحية التدريجية لتراكم وتحولات إيجابية تعتمد السلمية كما عند الاشتراكيين الأولين، وتعتمد على تغيير مشكلات الناس والاقتصاد المرئي تكون تقود لدى الآخرين المغامرين إلى نتائج رهيبة.

إن الماركسيين (المغامرين) يقولون إنهم يعتمدون على المنهج الجدلي، وكمثال لذلك يطرح مثال بسيط هو ان الناس عاشوا في أوائل التاريخ ما سُمي المشاعية البدائية لمئات الآلاف من السنين، وهو نظامُ الكفاف والمساواة، ثم جاءت الأنظمة التالية الاستغلالية كنفي لتلك المشاعية، وستأتي الاشتراكية كنفي النفي.

هذا المثال يستند الى منهجية الفيلسوف هيجل.

إن الجدل طوره هيجل الفيلسوف الألماني لكن كانت قوانين الجدل عمومية يمكن تطبيقها حتى من خلال عقل هيجل المحافظ المؤيد للإمبراطورية الألمانية. لأن ذلك القانون نفي النفي وهو أحد قوانين هذا الجدل يمكن أن يُقطَعَ، ويُفصل عن مواد التاريخ، ويُركبَ بشكلٍ ايديولوجي.

فلا يمكن اعتماد هذا القانون بشكل موضوعي بحثي مطول، ولهذا يُركب هنا بشكل أيديولوجي، ويؤدي إلى تعسف في التطبيق وكوارث كما حدث في دول آسيا المتخلفة التي أرادت أن تقفز للاشتراكية مكتفية ببعض الجمل الأيديولوجية ثم تقوم بقفزات كارثية.

تركيب مثل هذه المنهجية يحتاج إلى كوادر من المتخصصين بالعلوم الإنسانية بدرجة أولى، وليس على حسِّ السكرتير العام ومحدودية قراءاته، ولهذا يستطيع فلاحٌ بسيط أن يكون أمينا عاما ويقوم بحرب عصابات رهيبة، وقد كَثُرت هذه النماذج في العالم الثالث مستندةً إلى جمل مقطوعة السياقات، ولهذا تُسمى هذه الأفكار بأسماء مؤسسين كالأديان.

إن وجودَ التناقضات الاجتماعية كمحركةٍ للمجتمعات هو أمرٌ صحيح، لكن علينا درسها من خلال الوقائع ورؤية احتمالات تطورها وتوجيهها بشكل عقلاني سلمي بحيث تؤدي إلى التطورات الممكنة المفيدة لمختلف القوى الاجتماعية.

لهذا فإن درس الهياكل الاجتماعية الاقتصادية ورؤية احتمالات مسارها يحتاجان إلى مواد بحوث كثيفة في شتى حقول المعرفة من خلال باحثين، بحيث تُمنع القوالب المسبقة التي توضع لمصالح دكتاتوريات سياسية مختلفة.

وفيما كان ماركس وأنجلز عالِمين اشتغلا مدة عقود في بحوث الاقتصاد والرياضيات والعلوم الطبيعية، لكن استنتاجاتهما لتحويل الرأسمالية كانت تتردد بين ما هو نسبي ومطلق، بين التوجه للإصلاحات وتراكمها الطويل وبين المطلق وهو إزالة الرأسمالية كليا، لأن ظهورهما كان في ألمانيا المتخلفة عن بريطانيا المتقدمة، في بلد لم ينتقل لرأسمالية ديمقراطية بعد، وحين انتقل إليها طُرحت مسائلُ الاصلاحات المتراكمة كنهجٍ تاريخي، في حين بقيت الدعوة المطلقة لإزالة الرأسمالية موجودة لديهما كذلك، لكنها تُطرح لبلدان أوروبا الغربية وبأشكال مستقبلية طويلة الأمد، ولم يكن ذلك دقيقا أيضا، واسَتغل الخطأ والضباب التاريخيين قادةُ في الشرق المتخلف ليقفزوا إلى السلطات أو التنظيمات ويقيموا الاشتراكيات ويغامروا بالناس، وكانت نتائجها رهيبة على مستوى التطور العام ونتائجها لاتزال تعوق التحولات الديمقراطية في عموم هذه البلدان.

هي أشكالٌ خيالية أخرى من الاشتراكية لكنها كانت مكلفة وأدت إلى تحولاتٍ ذات ثمن باهظ.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة