الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥٢٢ - الخميس ٥ يوليو ٢٠١٢ م، الموافق ١٥ شعبان ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


تدويرُ رأسِ المال الوطني





تعطينا مصر نموذجاً لبدايةِ الصراع على تدويرِ رأس المال الوطني بين الفرقاء الاجتماعيين المختلفين، فالجيشُ كمؤسسةٍ اقتصادية سياسية عسكرية يمتلكُ جانباً كبيراً من رأس المال الوطني ويخضعُهُ لإدارته، فلم يتحرك رأس المال العام وفوائضه إلا عبر هذه الإدارة.

هذا الأمر جمدَ البنيةَ الاقتصادية في جماعات ومناطق مدنية وعلاقات خارجية ذات مستوى لم يتغير خلال سنوات، ولنلاحظ أن الجماعات المتضررة من غياب هذا الحراك هي في المدن الأخرى والمدن الصغيرة والأرياف، وهو أمرٌ يشير إلى أن طبقةَ العسكريين الاقتصاديين لم تقمْ بمشروعات وتحولات في هذه المناطق الواسعة وكانت استجاباتُها الواسعةُ للتحركات السياسية هي تعبيرٌ عن تجمد حراك رأس المال الوطني وجثومه عند فئات ضيقة.

وهذا يمكن ملاحظته في تونس وسوريا حيث جرت تحركاتُ عمالِ المناجم والفلاحين والعمال العاديين والفئات المصغيرة والمتوسطة التي كان رأسُ المال العام شحيحاً في المرور إليها، مع تفاقم مشكلاتها وتصاعد أسعار المواد الأولية والضروريات المختلفة.

في الدول الأقرب لليبرالية حيث تكون ثمة قطاعات اقتصادية خاصة مختلفة، تكون حالاتُ التمركزِ المالي الاجتماعي أقلَّ خطورة من دول أخرى يتنامى التمركزُ المالي الاجتماعي فيها إلى درجات كبيرة.

إن الدول التي شكلت علاقات اقتصادية قديمة مع الغرب حققت مثل تلك الهوامش الليبرالية والديمقراطية، وربما لا تكون كاملة، لكن وجود الهوامش المتسعة يقلللا من حالات التمركز ويوسع توزيع الثروة ويكثرُ من المشروعات في الخريطة الوطنية لأي بلد.

لكن هذه الهوامش من الليبرالية لم تتحقق إلا في سنوات قصيرة، والتحول المفاجئ من رأسماليةِ دولةٍ متشددة إلى ليبرالية فوضوية، لا يغير من التمركز، وربما كان المجتمع في عهد رأسمالية الدولة الوطنية كما هو الحال في مصر والجزائر في حال أفضل من ليبرالية مفاجئة فوقية تضربُ حتى المنجزات الوطنية السابقة، من ثبات للإسعار ومعقولية الأجور وتنامي الصناعة الوطنية المحمية.

الليبرالية والديمقراطية لا بد أن تكونا تراكماً للمنجزات السابقة، لكن في الأغلب لا يحدث ذلك وتغدو مجازرَ للقطاعات العامة ولتصاعد الأسعار وإنخفاض الأجور.

هكذا كان حالُ التحولاتِ من دولةٍ شديدة المركزية وسعت من تدوير رأس المال الوطني على عموم البلد وأنشأت مؤسسات اقتصادية في أمكنة كثيرة، لكن التمركز كان على حساب القيمة وتطور السلع وشكّل بيروقراطيات فاسدة. ولهذا فهذه النماذج تطرح ليبرالية فوضوية فيما لا يزال المركز المهيمن على رأس المال الوطني في سيطرته التي نقصت قليلاً ولم تعد كلية كما في السابق.

فهي تلغي إنجازات السابقين فيما لا تغدو لليبرالية والديمقراطية ثماراً مفيدة، بل على العكس تصعد قوى محافظة أو قوى مستفيدة من الفساد.

انقسم الشرق إلى نمطين غالبين هما رأسمالية الدول العسكرية المتشددة، ورأسمالية الدول المتجهة لليبرالية، وكان نصيبُ العرب كبيراً من النموذج الأخير، وكانت الثورات العربية قد وسعت هذا الخيار كثيراً، لكن النموذج الآخر يتدخل ولا يسمح بالتطور العميق في هذا الخيار.

نرى روسيا أكبر الحاضرين في النموذج الأول قد مضت عليها عقودٌ وهي في نموذج رأسمالية الدولة الشمولية، ولم تقدها الليبراليةُ المحدودةُ للانتقال النوعي للرأسمالية الحرة، ولتدويرِ رأس المال الوطني بين الطبقات المختلفة، الذي تعبرُ عنه الأحزابُ في عملية تداول السلطة، فحزبُ السلطةِ هو دائماً الفائز في الانتخابات رغم أن الحزب ينشأ فجأةً مثل الحزب الوطني في مصر!

وجودُ التراث الديني بين كل الدول العربية والإسلامية، يجعل عمليات التطور متداخلة ومشتركة، ووجود النمطين من رأسمالية الدول يجعل الصراع السياسي الاجتماعي يأخذُ منحى طائفياً، في حين يتطلب الموقف تطور النموذجين نحو الديمقراطية.

إصرار نماذج رأسماليات الدول المتشددة على خطها وعدم قدرتها الداخلية على التطور الديقراطي العميق، يؤزم المواقف ويصعدها ويفجرها في جوانب عدة في المنطقة، في حين يعتمد التطور لهذه الأمم الإسلامية على التعاون والسلام.

هذا يتطلب كذلك قدرة البلدان العربية المتجهة للديمقراطية أن تتغلب على تلك المركزيات الاقتصادية وأن تقدم تجارب ناجحة في التطور مركزة على التطور الاقتصادي الناجح وتوزيع الفوائض الاقتصادية على الجميع.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة