الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥٤٣ - الخميس ٢٦ يوليو ٢٠١٢ م، الموافق ٧ رمضان ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

قضايا و آراء

نهضة الدولة العلمانية بفصل الدين عن السياسة





تطرقنا في المقالين السابقين إلى الاستبداد السياسي للنظام الرسمي في دول العالم الثالث.. والاستبداد الديني لقوى وتنظيمات تيار الاسلام السياسي.. مثلما تناولنا تاريخ ومقومات الدولة العلمانية والمدنية الحديثة، منذ نشأتها في العصر الحديث القرن الخامس عشر الميلادي.. عصر (التفكير العلمي) الذي سعى إلى ابعاد الدين عن السياسة، وفصل الكنيسة عن الدولة، اذ تجسد هذا (التفكير العلمي) حينذاك في افكار ومبادئ العلماء التنويريين: كوبرنك (١٤٧٣ - ١٥٤٣)، وجليليو جليلي (١٥٦٤ - ١٦٤٣) ونيوتن (١٦٤٢ - ١٧٢٧) وجيوروانو برونو (١٥٤٨ -١٦٠٠).. ومثلما بزغ (عصر النهضة) متألقا باضاءاته، فان مفاهيمه جاءت تتويجا لثورة (لوثر مارتن) الألماني الجنسية (١٤٨٣ - ١٥٤٦) على الكنيسة الكاثوليكية، وما عكست نتائج تلك الثورة الخالصة.. بانشاء «الدولة العلمانية» المدنية الحديثة مرتكزاتها مبدأ تداول السلطة وفصل السلطات في ظل ديمقراطية حقيقية ومنشودة.. على عكس مقومات «الدولة القطرية» التي كتبنا سابقا عن تشكيلتها الهلامية وتركيبتها الاستبدادية.

وفي مقالتنا هذه فاننا سنواصل الكتابة بالشرح والتحليل ازاء النظامين السياسيين.: النظام الديمقراطي المتقدم في أوروبا.. والنظام الاستبدادي المتخلف في العالم الثالث.. ولكن بذات السياق لابد ان نستشهد هنا بالمقولة الشهيرة القائلة: «ليس الحال بدوام المحال»، ولطالما أبدينا اطراءنا وتأييدنا لمفاهيم «الدولة العلمانية» سلفا.. فانه يكون لزاما علينا الاشارة إلى ان الدولة العلمانية، التي أنشئت من قبل خمسة قرون خلت.. قد تراجعت مقوماتها (اليوم) نسبيا.. ذلك «بفعل فاعل» ألا وهو سياسة تلك الجهة المعنية والمتمثلة في الانظمة السياسية الرسمية الأوروبية، التي كان لها الدور الكبير في قلب موازين الدولة العلمانية، شيئا ما، ذلك بتصدع تشكيلتها وتحريف تركيبتها.. وبقدر ما شوهت هذه الأنظمة السياسية الغربية أيضا مبادئ عظمائها وأفكار فلاسفتها وعلمائها في مقدمتهم (كوبرنك وجليليو وداروين وهيجو وفولتير وهيجل وروسو وماركس)، فان هذه الانظمة الرأسمالية الغربية، قد اعترتها لاحقا النظرة الاستعمارية «الكولونيالية والنيوكولونيالية).. ويمكن القول بهذا الصدد انه بالرغم من تمتع شعوب الدول الأوروبية، بـ (الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية).. فان هذه الدول ذاتها قد اوجدت المفهوم الفوقي والاستبدادي (طبقيا واجتماعيا وعنصريا وأيديولوجيا).. وهو مفهوم (عالم الشمال) الرأسمالي الغني.. و(عالم الجنوب) النامي والفقير.. و(عالم الشمال) المضطهِد والمهيمن.. و(عالم الجنوب) المضطهَد والمهمَّش.. الذي بدور هذا (العالم المتخلف).. و(عالم الجنوب) قد (ضاعف الاضطهاد) على شعوبه ومجتمعاته بـ (اضطهاد مركب) صادر عن (مضطهد) أصلا.

على الصعيد ذاته يبقى القول صحيحا انه حسبما سعت الدول الغربية دوما إلى ترسيخ مبدأ العدالة الاجتماعية لشعوبها وتوفير روافد العيش والحياة الكريمة لمجتمعاتها، وتعزيز مفهوم الضمان الاجتماعي لعمالتها الوطنية.. والتأمين ضد البطالة للعاطلين على العمل.. فان هذه الدول الاوروبية في الوقت ذاته سعت إلى نهب مقدرات شعوب دول العالم الثالث خلال غزوها الاقتصادي والكولونيالي، ضمن كارتيلاتها النفطية العالمية، واحتكار الأسواق باستغلالين طبقي وامبريالي بشعين.. الأمر الذي يؤدي إلى ازدياد الاغنياء في المجتمعات الاوروبية غنى.. وازدياد الفقراء في المجتمعات العربية والنامية فقرا.

ولعل ما يثير العجب العجاب.. هو حينما يجد المحللون والمراقبون أن الدول الغربية دوما ما هدفت وتهدف إلى ترسيخ المشاريع الديمقراطية لديها من اجل تمتع شعوبها بالحريات العامة وبرفع اسقفها وتوسيع رقعتها ضمن ديمقراطيات حقيقية موغلة ابعادها في العراقة والمفاهيم الحضارية.. بينما هذه الدول ذاتها (الدول الأوروبية) قد حملت عنوان الغزو الاستعماري (السياسي والعسكري والثقافي).. حينما صادرت وطنا بأكمله للعدو الصهيوني.. وهو فلسطين السليبة منذ ان نسجت بريطانيا خيوط مؤامراتها المتمثلة في وعد وزير خارجيتها (ارثر بلفور) الأسود عام ,.١٩١٧ ومن ثم الانتداب البريطاني على فلسطين عام ١٩٢٤، توجت تلك المؤامرة الغربية باعلان النكبة عام ١٩٤٨م.

وحسبما حملت هذه الدول الاوروبية عنوان «الغزو الاستعماري».. فانها حملت عنوانا للاستبداد السياسي والمتجسدة ابعاده ومفاهيمه، في تلك الخطوات التعسفية المثيرة للجدل والتساؤلات المحيرة.. اذ تبنى تلك الخطوات العديد من الدول الأوروبية.. ذلك بتصديرها منتجات مرعبة وضارة إلى مختلف الحكومات الدكتاتورية في العالم الثالث.

ولكن أيا كانت الأمور وما تمخض عنها من النتائج، وبالرغم مما تناولناه سلفا ازاء سلبية النظام السياسي في الدول الاوروبية.. فان «الواقع السياسي» ازاء الدولة العلمانية والمدنية الحديثة في اوروبا.. وحول الدولة القطرية الهلامية المتخلفة في العالم الثالث.. قد ينطق بأن ثمة فجوة سحيقة تفصل ما بين النظامين (المتقدم والمتخلف).. لطالما مبدأ تداول السلطة في الدول الاوروبية.. يمثل سيدا لدولة «المواطنة والقانون».. اذ يعبر عن السيادة الوطنية والارادة الشعبية العامة.. ولكون المواطنين جميعا من دون استثناء وابتداء من مكانة المواطن العادي البسيط.. بأدنى موقعه، ومرتبة الرئيس او الوزير او المسئول بأعلى منصبه وسلطته... هم جميعا سواسية في الحقوق والواجبات امام سيادة القانون وحكم القضاء والدستور.. حسبما يخضع هؤلاء المسئولون في الدولة للمساءلة والمحاسبة ومثولهم امام المحاكمة.. بينما مرتكزات الدولة القطرية في عالمنا العربي والنامي، قائمة على تفاوت العلاقات الاجتماعية والتمايزات الاقتصادية والفوارق الطبقية والاختلافات الاسرية والقبلية.. وما يتمخض عن هذه العلاقات المعكوسة وغير العادلة، المجحفة وغير المتوازنة.. من اعتبارات الوجاهة، واحتكار المنصب واستغلال النفوذ والمكانة واستشراء مظاهر المجاملات والفساد والمحاباة والواسطة والمحسوبية والبيروقراطية .. ذلك كله بما ينسجم ومعاني المقولة الجوفاء والمجردة من القيم الانسانية ومفاهيم المواطنة، والمثل الاجتماعية والاخلاقية، التي تقول «أنا وأخي على ابن عمي.. وأنا وابن عمي على الغريب».. هذه المقولة لشديد الأسف تعبر عن تخلف العقل العربي، وبما يسعى صاحب هذا العقل إلى تشرذم المجتمع، محاولا تقسيمه إلى وجهاء ومتنفذين لديهم السلطة والقرار.. وبسطاء وعفويين مسلوبي الارادة والقرار.

ويمكن القول بهذا الإطار إن تخلف العقل العربي.. قد عكس بطبيعة الحال ابشع الاستغلال وقمة الانتهازية والوصولية والغايات الشخصية والأهواء الذاتية ومظاهر وظواهر تدعمها النعرات العنصرية والفئوية والعصبيات العشائرية .. بقدر ما يعبر هذا الواقع العربي المؤسف عن التخلف الشديد بأشكاله وابعاده كافة.. لعوامل تعود اسبابها إلى افتقاد «الدولة القطرية» المشروع التنموي التنويري والحداثي من جهة، وبسبب اقحامها الدين بالسياسة وامتزاج الاثنين بعضهما بعضا من جهة ثانية.

وفي ضوء ذلك استفادت الزعامات والقيادات الرسمية في العالمين العربي والاسلامي باقحامها الدين بالسياسة.. التي غالبا ما تحكم وتحتكم بمبادئ ونصوص الشريعة الاسلامية كمصدر أساسي للسلطات.. مما أتاح الفرص الذهبية أمام هذه «الزعامات» لترهيب المعارضين، وتخويف المعترضين على قراراتها السياسية واجراءاتها الرسمية من جهة.. وكسب ود واستقطاب قوى تيار الاسلام السياسي، الذي يمثل الوجه الآخر للدولة القطرية من جهة أخرى.

اما فيما يتعلق بمقومات «الدولة العلمانية» المدنية العصرية، فانها تظل على عكس مقومات «الدولة القطرية».. لكون «الدولة العلمانية» قد امتلكت المشروع الحداثي وفصلت الكنيسة عن الدولة.. وبالتالي يتجسد امام المرء والملأ على وجه البسيطة.. نموذجان متناقضان تناقضا صارخا: نموذج «الدولة العلمانية» المدنية الحديثة والمتقدمة.. ونموذج «الدولة القطرية» الهلامية الريعية والمتخلفة، اذ تفصل ما بين انشاء «الدولتين» وتأسيسهما بعمريهما السياديين، (خمسة قرون) من الزمان.. لتظل (الدولة القطرية) تتلكأ وتحبو بأولى خطواتها وتتعثر بعجزها عن عدم اللحاق بمفاهيم حضارة «الدولة العلمانية» الحديثة المتقدمة.. بأي حال من الأحوال













.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة