الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥٤٣ - الخميس ٢٦ يوليو ٢٠١٢ م، الموافق ٧ رمضان ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

زاوية غائمة

الحيوانات طرفا في صدام الحضارات





بعد زيارتي الأولى التاريخية للندن، عدت إليها عشرات المرات، بل أقمت فيها مع عائلتي حينا من الدهر عندما عملت خبيرا أجنبيا في تلفزيون بي بي سي (لتعرفوا أن لقب خبير أجنبي ليس حكرا للسلالات الأوربية، فطالما استقدمتني الـ« بي بي سي» التي تتبع لوزارة الخارجية البريطانية من الخارج لأعمل لحسابها، فأنا خبير، وطالما أنا سوداني فأنا أجنبي جداً)، ولكن مهما زرتها ستظل تمارس صدام الحضارات، لأننا وهم نعمل على «موجات» مختلفة، وإذا تداخلت تلك الموجات حدث تشويش يربك الطرفين، وكنت طوال الأشهر التي قضيتها في لندن طالبا مبتعثا من السودان أدخل في صدامات حضارية أكون فيها الطرف الأضعف، ليس بالضرورة لأنني كنت «متخلفا» ولكن لأنني كنت «أقلية».. وتذكروا ان العرب لم يكونوا وقتها قد اكتشفوا لندن ثم احتلوا أجزاء كاملة منها كما هو حادث اليوم، بل كان الواحد فينا لو التقى شخصا ناطقا بالعربية تلقاه بالأحضان وتبادل معه أرقام الهواتف والعناوين.. واليوم تسمع عربيا يخطط لزيارة لندن ويقول: لا لن اسكن في المنطقة الفلانية لأنها متروسة عرب، وشخصيا صرت من هذه الفئة في السنوات الأخيرة، لأنك إذا تجولت في منطقة كوينزواي وشارع إدجوير صيفا أو شتاء من دون أن تدخل أي دكان او مطعم تعود إلى بيتك او فندقك و«ريحتك»، بصل وفحم وشحم وتبغ، وكمية دخان الشيشة الذي ينبع من شارع ادجوير وحده أكبر من أدخنة جميع المصانع والورش والمفاعل النووية في إنجلترا، وبالتالي سيأتي يوم يصدر فيه قرار دولي بتغريم العرب كلفة ترقيع ثقب الأوزون بزعم أنهم من تسبب في خرقه وتسبب في التالي في التغيرات المناخية.. والخواجات «شطار» في حكاية «رمتني بدائها وانسلت»، أي يعملوا العَملة ثم يحملون الآخرين مسؤولية ارتكابها، وهكذا كانوا أول من مارس تجارة الرقيق، ويتباهون اليوم بأنهم أول من حارب تجارة الرقيق، ثم ابتكروا القرصنة البحرية، وظلت مهنة الآلاف منهم لقرون، ولما دخل بحارة آخرون سوق هذه التجارة بدأوا في محاربتها، ويصورون اليوم القراصنة الصوماليين على أنهم مجرمون، مع أنهم بعكس القراصنة الإنجليز لا يبدأون غاراتهم على السفن بقتل جميع من عليها من ركاب وبحارة.

المهم ان من تجليات صدام الحضارة التي كنت طرفا فيها انني لم أكن أخشى البشر في شوارع لندن في تلك الفترة من السبعينيات، فكما أسلفت فإن جرائم الشوارع كانت قليلة جدا، ولكنني كنت أعيش في رعب مقيم طوال النهار وأنا أمشي في الشوارع، بسبب كلابهم التي كانت تحتل معظم الأرصفة.. عندنا في السودان لا يخلو شارع من خمسة او ستة كلاب ولكنها مجتمعة لا تصدر نباحا يخيف أرنبا، بينما كانت كلاب لندن في حجم وحيد القرن، ولم يكن قد صدر قانون يلزم أصحابها بالإبقاء عليها مربوطة بسيور أو سلاسل أثناء التجوال معها (صدر مؤخرا في سويسرا قانون يقضي بسجن صاحب أي كلب لا يقوم بـ «تفسيحه» يوميا لساعة واحدة على الأقل.. ولا أذكر قط أن والديّ أخذاني خارج البيت بغرض الفسحة).. المهم أن تلك الكلاب كانت أحيانا ترغمني على تغيير خط سيري كل خمسة أمتار.. أرى كلبا أمام بيت فأعبر إلى الرصيف المقابل، ويظهر على بعد خطوات كلب آخر من النوع «أبو ذيل مقطوع» وهي صنف لئيم من الكلاب ورغم أنها سوداء فإنها لم تكن تعرف العِشرة، وتكشر وتزمجر في وجهي.

















jafabbas١٩@gmail.com



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة