رحلة إلى روح فيتنام.. وروح العالم (٣)
حكايات فيتنامية: صورة كيم وديانة غريبة و«هوندا» مرعبة!
 تاريخ النشر : السبت ٢٨ يوليو ٢٠١٢
بقلم: السيد زهره
في حلقة اليوم، والحلقة القادمة، أحب ان اتوقف عند عدد من الحكايات الفيتنامية.. حكايات بعضها تاريخي، واغلبها معاصرة.
كما سوف نرى، هذه الحكايات في مجموعها، تلقي اضواء من جوانب مختلفة على الشعب الفيتنامي.. ذاكرته التاريخية.. وطبائعه.. وقيمه وافكاره.. وهمومه ومشاغله.
***
حكاية صورة هزت العالم
صورة الطفلة الفيتنامية التي تجري في الشارع عارية وجسدها محترق بالنابالم، من اشهر الصور في تاريخ الحروب في العالم.
حين نشرت الصورة على نطاق واسع في ذلك الوقت، هزت العالم كله واصابته بالصدمة. الصورة في حد ذاتها كانت من العوامل التي عجلت بنهاية الحرب.
وحتى يومنا هذا، تبقى هذه الصورة شاهدا على مدى ما وصلت إليه أمريكا من وحشية وهمجية، وشاهدا على هول الجرائم التي ارتكبتها ضد الشعب الفيتنامي.
القرية التي التقطت فيها هذه الصورة اصبحت حتى اليوم مزارا يحرص الفيتناميون على ان يتوجه اليه الزوار الاجانب في فيتنام.
وقد زرنا القرية، وتجولنا في المكان نفسه التي التقطت فيه الصورة واستمعنا إلى احاديث مواطنين فيتناميين من ابناء القرية، مازالوا يتوارثون تفاصيل ما شهدته القرية في ذلك اليوم. وبعضهم كان موجودا بالفعل في ذلك اليوم، واحدهم حكى لنا انه كان زميلا لهذه الطفلة في مقاعد الدراسة.
الصورة لها حكاية رواها الكثيرون بالفعل من قبل، وهي تستحق ان تروى دوما.
القرية التي شهدت تلك الجريمة اسمها ترانج يانج وهي تقع جنوبي فيتنام قرب الحدود مع كمبوديا.
في الثامن من يونيو عام ١٩٧٢، قصفت الطائرات الامريكية القرية بقنابل النابالم. وخرج اهل القرية، او من بقي منهم حيا، إلى الشوارع يهربون في كل اتجاه، وكان من بينهم هذه الطفلة، واسمها كيم فولك.
المصور الذي التقط الصورة، واسمه نيك اون، كان يعمل لحساب وكالة اسوشيتد برس الامريكية، وكان بالمصادفة موجودا في القرية بصحبة جنود امريكيين في عربة جيب عسكرية.
المصور التقط الصورة، وصحب الطفلة إلى مستشفى في المنطقة ليتم علاجها، وبعد ذلك بأيام نقلوها إلى سايجون.
المصور نفسه حكى بعد ذلك وقائع ما جرى على النحو التالي:
قال: «الصورة تظهر كيم وبشرتها ملتهبة جدا. ووراء كيم يمكنكم رؤية جميع جيوش فيتنام الجنوبية يهربون معها، سويا. وإلى جانب كيم شقيقها الأكبر وشقيق صغير ينظران إلى الدخان الأسود المتصاعد في الخلف، واثنان من عائلتها. وكان مظهرها سيئا للغاية، اعتقدت أنها ستموت.
لقد كنت خارج البلدة ذاك الصباح وأخذت عددا كبيرا من الصور. وكنت على وشك المغادرة حين رأيت طائرتين. وقد أوقعت الطائرة الأولى أربع قنابل والثانية أربع (قنابل) نابالم. وبعد حوالي خمس دقائق رأيت أناسا يركضون صارخين «النجدة، النجدة».
وحالما شاهدتني قالت:«أريد مياها، أشعر بالحر الشديد، الشديد» في الفيتنامية: «نونغ كوا، نونغ كوا».
وقد أرادت أن تشرب شيئا، فأعطيتها بعض الماء. وشربته، فقلت لها إنني سأساعدها. وحملت كيم وأخذتها إلى سيارتي وذهبت بها حوالي ١٠ أميال إلى مستشفى كو شي في محاولة لإنقاذ حياتها. وكان هناك عدد كبير من الفيتناميين في المستشفى، بينهم جنود يموتون. لم يكترثوا بالأطفال. فقلت لهم: «أنا مراسل إعلامي، أرجوكم ساعدوها، لا أريدها أن تموت. فساعدوها مباشرة».
ويستطرد نك قائلا: لم آخذ صورة مثلها طوال حياتي. أجمع رؤساء التحرير الذين عملت معهم على إرسالها إلى الولايات المتحدة. ولم تعجبهم الصورة في البداية، لأن الفتاة كانت عارية. لكنني أخبرتهم عن قصف النابالم في القرية. وقد نشرت الصور في الولايات المتحدة وفي جميع أنحاء العالم. ونشرت في كل الدول الشيوعية، في الصين وفيتنام. لايزالون يستخدمون الصورة».
لاحقا أوفدت كيم للدراسة في كوبا، حيث تعرفت إلى طالب فيتنامي، ثم تزوجا هناك، وعندما توجها عام ١٩٩٢ في رحلة شهر العسل توقفت الطائرة في كندا للتزود بالوقود فطلبا حق اللجوء وبقيا هناك إلى اليوم.
وبعد اربعة اعوام من ذلك توجهت كيم إلى واشنطن للمشاركة في احتفالات المحاربين القدماء ممن شاركوا في حرب فيتنام، وهناك التقت الطيار الامريكي الذي قام بتنسيق هجوم الطائرات التي هاجمت في ٨ يونيو ١٩٧٢ قريتها، وخلال اللقاء سامحته على الفعل العنيف الذي ارتكب بحقها.
وأثناء ذلك الوقت نشأت لديها فكرة تأسيس جمعية كيم فوك لمساعدة الاطفال ضحايا الحروب الحالية، وهي جمعية تقدم الاموال للمنظمات الدولية التي توفر الادوية والعربات للأطفال المعاقين والجرحى والمرضى.
هذه هي حكاية الصورة التي ستبقى شاهدا على الهمجية الامريكية، وستبقى شاهدا ايضا على قوة الصورة وقوة الاعلام في عالم اليوم.
***
حكاية ديانة غريبة
بعد رحلة استغرقت اكثر من ساعتين بالباص من سايجون، وصلنا إلى معبد «كاو داي».
بالمصادفة، كان وقت زيارتنا للمعبد هو وقت «الصلاة» وكانت فرصة لنتابع طقوس «الصلاة» يمارسها العشرات من الرجال والنساء داخل المعبد.
و«كاو داي» اسم ثالث اكبر ديانة في فيتنام من حيث عدد التابعين لها، ويقدر عدد اتباعها بنحو ٥ ملايين فيتنامي او اكثر.
والكلمة تعني «القصر العالي». وهي ديانة حديثة تأاسست في هذه المنطقة الجنوبية التي يقع بها المعبد في عام .١٩٢٦
وهذه الديانة قصة نشأتها غريبة، كما ان معتقداتها غريبة ايضا، وهي في نشأتها وتطورها اختلطت المعتقدات الدينية بالسياسة بشكل مباشر.
مؤسس هذه الديانة رجل اسمه نو فان سيو، وهو رجل غامض كل ما يعرف عنه انه كان موظفا عاما ويعمل لحساب السلطات الاستعمارية الفرنسية. والغريب انه منذ اعلان تأسيس الديانة في عام ١٩٢٦، اختفى نهائيا بشكل غامض، ولا احد يعرف اين اختفى او ذهب ،ولا متى توفي.
المهم ان هذا الرجل، زعم انه تلقى «وحيا» من الله بأنه «رسول» وان الله امره بأن يؤسس هذه الديانة الجديدة كي تكون ديانة توحيدية توحد كل الاديان.
وزعم ان الله ابلغه ان تعدد الأديان في العالم منع البشر من ان يعيشوا معا في انسجام ووئام، وانه آن الاوان لتأسيس هذه الديانة التوحيدية الجديدة.
لهذا، فان تعاليم هذه الديانة تضم عناصر من الديانات المختلفة، وخصوصا من البوذية، والكونفوشيوسية، والمسيحية، والاسلام، والهندوسية، والتاوية.
ومن اغرب الامور في هذه الديانة ان قائمة «القديسين»، وقائمة «الارواح المقدسة» لديها تضم العشرات من الرسل السابقين، ومن الساسة والادباء والعلماء والمفكرين، لا يمكن ان تعرف ما الذي يجمعهم بالضبط.
مثلا، قائمة «القديسين» و«الارواح المقدسة» في هذه الديانة تضم اسماء مثل، فيكتور هوجو، ووليم شكسبير، وتوماس جيفرسون، وونستون تشرشل، ولينين، وديكارت، وباستير، وتولستوي، وآخرين.
المؤرخون يقولون ان مؤسس هذه الديانة لم يكن خطابه يقوم فقط على هذه المزاعم ذات الطابع الديني، لكن كان له خطاب اجتماعي سياسي مباشر، هو بالذات الذي جذب اعدادا كبيرة إلى دعوته.
المنطقة التي انطلقت منها هذه الديانة هي منطقة ريفية بالكامل، كل اهلها مزارعون. وقد كانوا يعانون اشد المعاناة من اوضاع اجتماعية مأساوية. فقد كانت ٩٥% من مساحات اراضي الارز في المنطقة، حيث كل اراضي المنطقة تقريبا مخصصة لزراعة الارز، مملوكة لـ ٥ من الملاك. وباقي المزارعين، أي ٩٥% من اهل المنطقة لا يملكون شيئا ويعيشون اوضاعا غاية في البؤس.
يقول المؤرخون ان هذا الرجل وحد هؤلاء المزارعين، واعطاهم الامل في المستقبل ولهذا انضموا إلى دعوته.
وحين تأسس الحزب الشيوعي في فيتنام في عام ١٩٣٠، وصادر الاراضي من الاغنياء، تبعه الكثير من المزارعين.
ولجأ الفرنسيون، الذين كانوا يحتلون البلاد، إلى استغلال هذا الدين الجديد. وقاموا بتسليح اتباع هذا الدين ودفعوهم إلى مقاتلة الشيوعيين.
وحتى عام ١٩٧٥، كان لأتباع هذه الديانة في المنطقة جيش و«بوليس» شبه مستقل. وبعد انتهاء الحرب وتوحيد البلاد، اغلقت السلطات الشيوعية المعبد والمعابد الاخرى في البلاد، ووضعت اتباع الدين تحت سيطرة الدولة. بعد ذلك، في عام ١٩٩٧، اعترفت السلطات بهذه الديانة وسمح لأتباعها بممارسة شعائرهم بحرية.
في فترة الحرب، كان الامريكان يطلقون على هذا المعبد «كندا فيتنام». والسبب ان الامريكان الذين كانوا يريدون الهروب من المشاركة في حرب فيتنام كانوا يهربون إلى كندا. والفيتناميون الذين كانوا لا يريدون ان يحاربوا مع الشيوعيين كانوا يهربون ويلجأون إلى هذا المعبد.
اذن، هذه ديانة غريبة في نشأتها وفي تطورها. لكن الامر الواضح ان اهدافا سياسية مباشرة كانت وراء تأسيس هذه الديانة، وبدليل الدور السياسي، بل العسكري المباشر، الذي لعبه اتباعها بعد ذلك.
ومما يزيد من الشبهات المحيطة بهذا الدين، «النبوءات» التي يقول الفيتناميون ان مؤسسها اطلقها في ذلك الوقت، أي في عشرينيات القرن الماضي.
يقولون انه تنبأ آنئذ مثلا بأن الفرنسيين سوف يهزمون ويرحلون عن فيتنام، وان قوة اجنبية اخرى سوف تحل محلهم.
اما الاكثر غرابة واثارة للشبهات فما يقوله الفيتناميون من انه تنبأ آنئذ، بأنه في عام ١٩٤٨، سوف يكون لليهود «وطن» يقيمون فيه.
بالطبع، لا احد يعرف ما اذا كان قد اطلق مثل هذه «النبوءة» فعلا، ام انها نسبت اليه بعد ذلك. والامر بحاجة إلى دراسة وتدقيق.
لكن المؤكد في كل الاحوال انها ديانة غريبة وغامضة.
والغريب ايضا ان «ديانة» مثل هذه يصبح لها كل هؤلاء الاتباع بحيث يتجاوز عددهم كما قلت خمسة ملايين والبعض يقدرهم بستة ملايين.
***
عبقرية عبور شارع
قبل ان نذهب إلى فيتنام، قرأت تقارير عامة لم ادرك ما تعنيه بالضبط تتحدث عن الاوضاع الغريبة للمرور في شوارع مدينة هو شي منه. اقصد، نعرف ان ازمة المرور تعاني منها الكثير من العواصم العالمية، فما الذي يكون جديدا او غريبا هنا؟
الغريب انه منذ اللحظة التي وطئت اقدامنا فيها ارض مطار هو شي منه، ما من احد قابلناه الا وحذرنا بشدة من المرور في شوارع المدينة، وتبرع بتقديم النصائح لنا حول افضل الطرق لعبور الشارع.
الكل تحدث عن الموضوع كما لو ان مجرد عبور شارع هو مغامرة خطيرة غير مأمونة العواقب، او هو امر يتطلب قدرات وعبقرية خاصة.
في البداية، لم نفهم بالضبط ماذا يعنيه هذا، لكن سرعان ما اكتشفنا ان الامر هو بالفعل كذلك على النحو الذي تحدثوا به.
المشهد في شوارع سايجون عجيب جدا.
في أي وقت، وفي أي لحظة، آلاف من راكبي «الموتوسيكلات» يجتاحون الشوارع. جيش من راكبي الموتوسيكلات، بالمعنى الحرفي للكلمة. فتيانا وفتيات.. كبارا وصغارا.
المشكلة ليست في هذا العدد المهول من راكبي الموتوسيكلات في حد ذاته.
المشكلة ان كل هؤلاء يسيرون في الشارع بسرعة شديدة في جميع الاتجاهات في نفس الوقت.. يسارا ويمينا.. شمالا وجنوبا.. شرقا وغربا.. لا قواعد سير او مرور.
الشيء العجيب جدا انهم يفعلون هذا.. يسيرون في كل الاتجاهات بشكل عادي جدا، وبسلاسة ويسر وهدوء.. ولا تعرف كيف يفعلون هذا بالضبط.
هم ليس لديهم مشكلة.. وبالطبع الفيتناميون المتعودون هذا الوضع يعرفون كيف يتعاملون معه.
المشكلة طبعا هي بالنسبة إلى الأجانب الذين يفاجأون بهذا الوضع الغريب.. كيف يتعاملون معه؟ كيف يمكن لهم ان يعبروا شارعا مثل هذا؟
مرافقنا الفيتنامي قدم لنا منذ اليوم الاول نصائح للتعامل مع هذا الوضع. قال لنا: انه كي تعبر الشارع لابد ان تكون في كامل اليقظة والانتباه وان تنظر في جميع الاتجاهات. وقال لنا: انه وانت تعبر الشارع عليك ان ترفع يدك عاليا وان تلوح بها باستمرار شمالا ويمينا طول الوقت حتى يتنبه اليك راكبو الموتوسيكلات. ونصحنا ايضا بدلا من هذا ان ننتظر حتى يأتي رجل مرور ويوقف حركة المرور حتى تعبر الشارع.
طبعا، بالخبرة العملية اكتشفنا ان حكاية التلويح باليد هذه لا قيمة لها.. فان تلوح بيدك او تصرخ او حتى تلقي بنفسك في الشارع، لن يعيرك احد انتباها.
بالمناسبة، هم في فيتنام يطلقون على الموتوسيكلات اسم «هوندا». بمعنى ان أي موتوسيكل من أي نوع او ماركة يسمونه «هوندا». وحين يقول فيتنامي: انا امتلك «هوندا» يعني انه يمتلك موتوسيكلا ايا كانت ماركته. ربما يكون السبب كما قال مرافقنا ان «هوندا» هي الماركة الاشهر.
قرأت تقريرا فيتناميا يتحدث عن هذه الظاهرة او الازمة بالاحرى، يذكر ان هناك اكثر من ٤ ملايين موتوسيكل تسير في شوارع سايجون. أي ان نحو ٩٠% من سكان المدينة يستخدمون الموتوسيكل كوسيلة تنقل.
ويذكر التقرير ان الازمة، أي ازمة المرور في المدينة، تفاقمت بعد انضمام فيتنام إلى منظمة التجارة، واشترى مئات الالاف من سكان المدينة سيارات.
ويذكر ايضا ان المشكلة ان الطرق في سايجون تمثل فقط نسبة ٢% من مساحتها، في حين ان هذه النسبة في مدن مثل نيويورك او باريس او لندن تصل إلى ما بين ١٥ إلى ٢٠%. ويتحدث التقرير عن خطط للحكومة للتعامل مع هذه الازمة مستقبلا.
عموما، تبقى هذه الظاهرة من عجائب مدينة هو شي منه - سايجون - ويبقى ان واحدة من اكبر المهارات التي يجب ان يتعلمها زائرها، هي مهارة ان يعرف كيف يعبر شارعا.
***
في الحلقة القادمة باذن الله، سأتوقف عند حكايات فيتنامية اخرى تضيف ابعادا جديدة إلى صورة فيتنام، الشعب والدولة.
.