طريق غريب لانتقال الغُزاة
 تاريخ النشر : الأحد ٢٩ يوليو ٢٠١٢
بقلم : د. إسماعيل محمد المدني
تداعيات التسرب الإشعاعي من مفاعلات فوكاشيما النووية في اليابان في ١١ مارس ٢٠١١ ستظل تؤرقنا وتؤثر في بيئتنا وصحتنا عقوداً من الزمن، وليس في اليابان فحسب وإنما في الدول التي تبعد آلاف الكيلومترات من مقاطعة فوكاشيما في الجانب الآخر من الكرة الأرضية.
وهذه الانعكاسات السلبية لا تتمثل في الجانبين البيئي والصحي المتعلقين بتلويث مكونات البيئة الحية وغير الحية بالمواد الإشعاعية المهلكة للحرث والنسل، وإنما انكشف اليوم بعد جديد لم يكن في الحسبان ولم يخطر على بال أحد.
فبعد الزلزال المدمر الذي هز اليابان وصاحبه احتراق المفاعلات النووية وانبعاث الملوثات المشعة، جاءت الأمواج العاتية والتيارات البحرية الجارفة فَجَرَّتْ معها كل ما تهدم من مباني وموانئ ومرافئ لصيد الأسماك على المناطق الساحلية لبحر اليابان، ومن بين ما أخذتها التيارات المائية معها هو حوض للسفن تهدم بسبب الزلزال والسونامي فانشق وانكسر إلى قطعٍ متناثرة، أكبرها قطعة من الخرسانة طولها زهاء ٢٠ متراً، وعرضها قرابة ٦ أمتار، وارتفاعها أكثر من مترين.
وهذا الحوض للسفن الذي طفا فوق سطح الماء، بدأ منذ مارس ٢٠١١ بمسيرة الألف كيلومتر عابراً البحار ومتحدياً التيارات العنيفة للمحيط الهادئ، ومتجهاً بخطى ثابتة وحثيثة نحو حدود الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد السواحل الشمالية الغربية، مثل ولاية واشنطن، وأوريجن، وألاسكا.
وهذه الرحلة الفريدة من نوعها والتي تُسجل لأول مرة، استغرقت منذ انطلاقتها الأولى حتى وصولها إلى مدينة نيوبورت)tropweN( في ولاية أوريجون)nogerO( وعلى شواطئ بحر أجاتا (hcaeB etagA) نحو سنة وأربعة أشهر، حيث رست على الساحل وحطت رحالها في ٩ يونيو ٢٠١٢، وقطعت مسافة تقدر بنحو ٨٨٠٠ كيلومتر.
ولكن هذا الحوض الخرساني عندما وصل إلى سواحل أمريكا لم يكن وحيداً، وإنما كان مليئاً بالحياة النباتية والحيوانية البحرية اليابانية التي سافرت مجاناً دون دفع أي ثمن مع جدار الحوض، فالتصقت به ووجدته بيئة ثرية ومناسبة للعيش فوقها والتكاثر عليها خلال هذه الأشهر الطويلة، فغزت واستوطنت البيئة البحرية الأمريكية دون أي معارك طاحنة، أو زهق للأرواح، أو أي كلفة مالية، أو حتى الحصول على تأشيرة لدخول الأراضي الأمريكية، ومن هذه الكائنات أعشاب وطحالب وحشائش البحر بمختلف أنواعها، والقباقب والمحار ونجم وبلح البحر والكائنات البحرية الأخرى التي التصقت بالجدار، إضافة إلى بعض الطيور البحرية التي حطت فوق الحوض وسافرت معه دون عناءٍ أو تعب ومن دون تذكرة سفر أو تأشيرة للدخول.
ولذلك عندما وصل هذا الحوض الخرساني إلى السواحل الأمريكية، دق ناقوس الخطر بوجود تهديد خارجي، وغزوٍ غير متوقع، وهجوم عنيف لكائنات يابانية دخيلة على البيئة الأمريكية، وكأنها معركة ميناء هاربر )robraH lraeP( المشهورة عندما هاجم اليابانيون أمريكا في ٧ ديسمبر ١٩٤١ أثناء الحرب العالمية الثانية من دون أي إنذارٍ أو تحذير.
فالخطوة الدفاعية الأولى التي اتخذتها أمريكا لمكافحة هذا الغزو الأجنبي، هي التأكد من خلو هذا الحوض الخرساني والمسافرين على متنه من أي مادة مشعة بسبب التسرب الإشعاعي من المفاعلات المحترقة، ثم جاءت الخطوة الثانية وهي إزالة جميع الكائنات العالقة واللاصقة فوق السطح، وعلى جدار الحوض من خلال التنظيف الشامل لكل بقعةٍ صغيرةٍ أو كبيرة، والخطوة الثالثة والأخيرة تمثلت في تعقيم الحوض برمته بالتسخين، باستخدام اللهب أي الحرق في درجات عالية.
.