الثوراتُ العربيةُ أعودة للوراءِ أم قفزة للإمام؟
 تاريخ النشر : السبت ٧ يناير ٢٠١٢
عبدالله خليفة
تبدو الآن وبشكل أوضح عمليات عودة الأمم العربية والإسلامية إلى جذورِها وبشكلٍ حديث متردد.
إن المزواجةَ بين الماضي والحداثة تظهرُ بشكلٍ معقد مركب.
هنا تعيدُ الأممُ الإسلاميةُ استنساخَ التجربة الأوروبية الغربية بشكلٍ مختلفٍ متجاوزٍ تبعاً لمستوى تطورها.
تجربةُ الحداثةِ الأوروبية الغربية اعتمدتْ على بناءِ أسواقٍ موحدةٍ في داخل كل دولة، ثم في مجموعةٍ من الدول، ثم في القارة، وقد استغرق ذلك قروناً عديدة!
توحدُ الأسواقِ عمليةٌ مكلفة صعبة خطرة حتى في التاريخ الأوروبي، فهي قد مشت فوق جذور التفكك والسلطات المحلية المنغلقة والجماعات القرابية المضادة والأفكار الجامدة وسلطات الكنائس الممانعة للحداثة وللتوحد بقيم جديدة مختلفة عن جمود الوعي الديني القديم.
في حين حدثت عملياتُ التوحد العربية والإسلامية بقفزات، عبر حركات دينية توحيدية وعبر حركات ليبرالية في بعض البلدان المتقدمة عن محيطها ومن خلال أنظمة قومية مركزية عسكرية.
كلُ حركةٍ سواء دينية أم تحديثية جرت في ظروفها الخاصة، وفي بُنى مختلفة، لكنها ذات روابط قومية وإسلامية مشتركة، في الجزيرة العربية وليبيا ما كان التوحيد ممكناً إلا عبر حركات دينية هي الوهابية والسنوسية، في مصر عبر السلطة المركزية التي اتخذت أشكالاً بدءًا من المماليك مروراً بمحمد علي حتى جمال عبدالناصر.
وهكذا فإنه في كلِ دولةٍ أخذ التطورُ الاجتماعي لباسَهُ من خلال الظروف الملموسة لكلِ شعب، وهو في هذا التلون يتجمعُ كذلك عبر العلاقات العربية المشتركة المختلفة، الثقافية خاصة.
وهكذا فإن الحركات ذات الأجنة الديمقراطية كانت تغيرُ البناءَ التقليدي لكل دولة، لكن ذلك يتسارع مع حركاتِ الدول المركزية ذاتِ التشكيلاتِ الطبقيةِ الأكثر تطوراً، وهي المقاربةُ للتوحيد والتحديث أكثر من غيرها، والتي تأخذُ البذورَ الأوروبية التحديثية وتغلغلها في بُناها التي تتصارع معها ولا تتشربها إلا بعد أن تغدو عربية.
توجهت الحداثة الأوروبية إلى الصراع مع الدين الذي كان هو المركزية الواحدة المعرقلة للتطورات الرأسمالية الداخلية لكل بلد، فيما كانت الأديان والأفكار التحديثية تسيرُ جنباً لجنب عربياً، وتتبادل مواقعها بحسب قدرتها على إحداث التطورات التحولية في كل مرحلة.
في مرحلةٍ تحرنُ الأفكارُ الدينية وتعجز عن فهم محتوى التطور كما في المرحلة (الاشتراكية) خاصةً، التي تطلبت نمواً في رأسماليات الدول المركزية، وتسريعاً في التصنيع، ثم وصلت هذه المرحلة إلى اختناقها بسبب الشموليات وخنق الرأسماليات الخاصة الحرة.
مرحلةُ جمودِ الأفكارِ التقدمية التحديثية ليست أبدية، كما أن هيمنةَ الأفكارِ الدينية ليست مطلقة كذلك، فإن البنى الاجتماعية وحاجاتها إلى التغيير والتصنيع وتنمية القوى المنتجة البشرية والمادية وإعادة هياكل الإنتاج وتوزيع الثروات، هي القوانينُ الموضوعيةُ الداخلية الغائرة في التطوراتِ والتي تفرملها أو تدفعُ بها، بحسب مستوى الوعي البشري في كلِ بنيةٍ عربية، ومدى إدراك القوى السياسية والفكرية لتلك الحاجات المتوارية.
تسارع التطورات السياسية الثورية العربية يشيرُ إلى هذه الرغبة الغامضة غير المتبلورة سياسياً في تكوين السوق الموسعة المناطقية العالمية الموحَّدة للعرب والمسلمين عامة.
وفيما يعمل الليبراليون والتقدميون على التركيز فيما هو تحولي عالمي، في كل مرحلة ومن خلال مشارب اجتماعية متعددة، يشير الدينيون إلى كل ما هو ملتزم بالتاريخ المحلي، وبالتقاليد، والإرث المنقول عن الماضين.
الضرورة الراهنة هي كذلك تكمنُ في توسيع الأسواق، في مركزيتها وتوسيع قطاعات الإنتاج الحديث، وتنويعها، وتغيير حشود العائلات الخارجة عن الإنتاج، ودمجها بالأسواق، وتغيير نمط العلاقات الاجتماعية وعقليات العمل، وتقليص حشود البيروقراطيات وميزانيات التسلح الرهيبة، وتعاون وثيق دقيق بين القطاعات العامة الصناعية العلمية القائدة وبين القطاعات الخاصة المتعددة، وإحداث المقاربة بين غرب الوطن العربي وشرقه عبر تعاون جديد متطور.
لكن الضرورات شيء وأشكال الوعي السياسي الاجتماعي المتنوعة والمتصارعة شيء آخر!
حيث يحدث التركيز في المصالح الخاصة بالجهويات والطوائف والأقاليم، وعلى هيمنة الذكور، والثقافة المحافظة، وتحدث عملية ارتداد داخل الثورات، لكن القوى الايجابية والمهتمة بالتقدم العام تقف ضد ذلك. نلاحظ هنا أن التطرف في المركزية والاستبداد والتنمية الفوقية أدى إلى تطرف مضاد الآن عبر تغيير أو نسف المركزية.
إن القوى المحلية وجماعات الاقطاع تستعيد بعضاً من سلطاتها، ومن هنا أهمية التحالفات الديمقراطية التحولية لعدم تفكك البُنى السياسية الاجتماعية واستغلال الموارد للتنمية الشاملة.
فغالباً ما تصدم القوى القديمة والجديدة مع بعضها بعضا لكن الضرورات تظهر من خلال الأحداث والمصادفات والبحث والنضال الواسع الجبهوي بين القوى السياسية الاجتماعية لاستكمال الثورة الصناعية المتقدمة.ئ
.