الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٥٥ - الجمعة ٢٠ يناير ٢٠١٢ م، الموافق ٢٦ صفر ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

زاوية غائمة


لا يخاف من الغزو إلا الأعزل (١)





عندما وصلتني رسالة إلكترونية من رئيس تحرير إحدى المجلات، يطلب فيها مني مداخلة حول حوار الثقافات، قفز إلى ذهني سؤال ضخم: هل بيني والرجل ثأر قديم حتى يجعلني موضع شبهة؟ لماذا اتهمني بالتثقف؟ أليس ذلك تلميحا صريحا يشي بأنه متواطئ مع دوائر استعمارية استكبارية تهدف إلى تشويه سمعتي، كي تستهدفني أجهزة المخابرات الغرقية؟ (هذا جهاز موحد للاستخبارات الغربية والشرقية أثبت كفاءة في حملة أمريكا لمحاربة الإرهاب.. أمريكا تقبض على جعفر عباس وتسلمه لدولة شرقية فيعترف خلال دقائق بأنه كان نائب هتلر، ثم التحق بكتائب القذافي في سيبيريا)، وهب أنني فعلا مثقف.. هل سأجاهر بذلك؟ ثم لماذا أورط نفسي بنفي وجود غزو ثقافي غربي فأٌتهم بالعمالة للغرب، أو أزعم أن ما هو حادث تلاقح عظيم الفائدة وحتمي فأُتهم بالعمالة للغرْق (الشرق والغرب معا!).. صحيح أن وزير الدعاية النازي الهتلري غوبلز مات، ولكن مقولته «كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي» مازالت سارية المفعول.. وكل من يحمل لقب مثقف في العالم العربي عميل، فهو إما عميل للحكومة في نظر غيره من المثقفاتية وإما عميل لدولة أجنبية في نظر الحكومة، وبالتالي فهو لقب لا يرجى من ورائه خير.

وبداهة فإنني لا أمانع في أن أكون عميلا غربيا بلا أجر، (إذا كانت العمالة تعني النهل من موارد الثقافة الغربية بوعي)، لأن ذلك حتما وقطعا أشرف من أكون عميلا عربيا مأجورا كشأن آلاف المثقفين العرب الذي أصبحوا مطايا للحكام يستخدمونهم كأبواق دعاية، يلبسون الباطل ثياب الحق، ثم يلفظونهم لفظ المناديل الورقية المستعملة.. المهم هو أنني لا أتحسس مسدسي الافتراضي كلما سمعت عبارة «ثقافة غربية»، بل لا أتوجس مما يسمى الغزو الثقافي الغربي رغم أنه أمر حادث وواقع! ولكن هل هو غزو؟ الغزو نشاط منظم له تكتيك واستراتيجية: فهل أبدع الغرب رواياته وقصصه وأشعاره وفنونه التشكيلية وموسيقاه واشتراكيته ورأسماليته وفلسفاته التي يناقض بعضها بعضا ومنظوماته الإعلامية لغسل أدمغة العرب بالتحديد؟ من يجيب بنعم يحتاج إلى زرع دماغ.. يا جماعة والله ما حد سائل فينا كي نتوهم أن الكون كله يتآمر علينا.

إنني لا آتي بجديد إذا قلت إن من يعد للثقافة والمعرفة ما تيسر من عدة ومن رباط الفكر لا يخشى من الغزو، حتى لو كان أمرا حادثا، والغرب غزانا وغيرنا ثقافيا فقط بمعنى أن له ثقافة طاغية مبهرة وذات زخم ويملك أدوات توصيلها إلى الآخرين، ونحن أمة مستهلكة ومستهلكة (بكسر اللام مرة وفتحها مرة أخرى)، فالكلام الذي تقرؤونه الآن ما كان ليصل إليكم لولا أنني أستعين بأدوات من إنتاج الثقافة والحضارة الغربية، القميص الذي أرتديه الآن صنع من قطن سوداني أو جزر قمري ولكنني اشتريته من ماركس (سيتهمني البعض بالشيوعية) آند سبنسر (سيتهمني الجميع بالتطبيعية لأنه فيما يقال إن أصحاب المتجر يهود.. ليكن، فالتطبيع على المكشوف خير من التطبيع المستتر وجوبا للتعذلار!)، الرواد من شعرائنا المعاصرين نقلوا بالمسطرة عن تي أس اليوت وإيزرا باوند، حتى طريقة أداء السح الدح امبو و«بحب عمرو موسى..» منقوله عن الراب الأمريكي المنشأ، وبيننا من يقول علنا إن نجيب محفوظ لم يكن يستأهل جائزة نوبل للآداب، لأنه ليس في قامة غارسيا ماركيث أو جيمس جويس أو هنري جيمس.. المهم أنك عندما تطلع على الثقافات الأجنبية بذهن متفتح ومسلحا بثقافتك الأصلية، لن تنجرف ولن تنحرف، بل يصبح عودك الثقافي أكثر متانة.. ونواصل بعد الفاصل.





jafabbas١٩@gmail.com



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة