الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٥٦ - السبت ٢١ يناير ٢٠١٢ م، الموافق ٢٧ صفر ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


الفِرقة والحزبُ





كما أن المجتمعات العربيةَ تعيشُ مرحلةَ انتقالٍ بين الحياةِ التقليدية والحداثة، لذلك فإن تنظيماتها السياسية وحياتها الاجتماعية تترددُ بين الحقبتين.

فلدينا فِرقٌ سياسية وليست أحزاباً، والفِرقُ كما تشكلتْ في الماضي هي جماعاتٌ عسكرية، تأتي من خلالِ بوق، وتعملُ بشكلٍ اصطفافي حربي تلبي الأوامر، وتنتظرها من الرئيس، الذي هو رئيس الجماعة أو القبيلة، أو الطائفة.

وما يشتغلُ فيها هو جوارحُها المختلفة، فاليدُ تتضخم خاصة مع الجماعات العامية اليدوية، ويتضخمُ اللسانُ، يرددُ ما يُقال له، والأذنُ لا تصغي إلا لجهةٍ وتنسدلا عن بقية الجهات، والدماغُ يضمرُ لصالح بقيةِ الأجزاء العضلية، فيغدو الكائنُ المسيَّسُ متهيجَ الأعصاب نظراً إلى تجميد عقله، والعصف ببقيةِ أدوات حركته، إما ضرباً باليد وإما جراً بالرجل، وإما صراخاً باللسان. وربما تتعقدُ الممارسةُ وتعنفُ عبرَ استخدام أدوات القوة، وأدوات الحرق والتعذيب والبطش.

عضو الفرقةِ ينتظرُ الهياجَ الخاص القادم من الرئيس، والرئيس لا يمكن أن يزول سياسيا وفكريا، فليس ثمة تغير في السياسة والشعارات. والجماعة التي تتكون على أساس الفِرق تتوجهُ للصراع مع فِرقٍ أخرى، وغالباً ما يصيرُ ذلك عبر صراع الطوائف أو أجزاء الطوائف الداخلية المختلفة، لأن صراعَ الطوائفِ صراعٌ جامد متخلف، لا مكان فيه لتطور السياسة وانفتاحها على العلوم الاجتماعية، ومن هنا فإن العضو لا يقدر أن يتطور فكريا وسياسيا، ويتعمقُ اشتغالَهُ بالسياسة وربطها بالانجازات العلمية عن طريق الثقافة الحديثة.

في الصراع الطائفي إما أن يجرى الاحتفاظَ بالسلطة والتشبث بها إلى الأبد وإما انتزاعها والاحتفاظ بها إلى الأبد.

وفي كلمةِ الفِرقةِ نجدُ مضمونَ الحرب الأهلية الغائر، فلأن الفرقةَ جماعةٌ عسكريةٌ غيرُ مدنية وإن ظهرت في المدن، فهي جماعةٌ مستعدة لأعمالِ الصراعِ من معاركٍ في الأحياء حيث لا تختلفُ عن أصحاب القبضات، وقد تصير بأشكال عسكرية، إلى أن تغدو قوى حزبية مستولية على أجهزة العنف، وتتوجه لحصر الطائفة الأخرى وعدم تطورها.

حتى مع اقتراب الفِرقة من الأعمال الفكرية والبحث السياسي الأولي فإنها تنقل نظامها الانضباطي العسكري إلى داخل الجماعة، فلا تقبل بتعددِ الرؤوس في الجماعة ووجود آراء متعددة ومختلفة وبغنى فكري، لأنها تعتمد فقط على رئيس الجماعة أو رئيس القبيلة، ولهذا فإن الفقرَ الفكري يستمر فالفكرُ ينمو باصطدامِ شرارات الاختلاف التي عن طريق الاحتكاك تنتجُ طاقات المعرفة. فالفِرقة تموت بالاختلاف والحزب الديمقراطي يزدهر به.

وهذا لا يحدث لأن الفِرقة كمعبرةٍ عن الطائفة هي وجود جامد عاطل عن الخلق المعرفي والصدامات الاجتماعية الداخلية الديمقراطية. صراعُ الطوائفِ يقودُ لحرائق البلدان، بينما صراعُ الطبقات في أطرٍ ديمقراطية يقود إلى إعطاء الطبقات كافة أدوارها المختلفة لإغناء الكل الاجتماعي من خلال مصالحها المعترف بها.

حالاتُ الفرقِ والطوائفِ هي تعبيرٌ عن الجوانب التقليديةِ في المجتمعاتِ العربية الإسلامية وهي تنتقلُ من الإقطاع إلى الرأسمالية، وهي تبدلُ كياناتها العائلية والقبلية والمذهبية والمناطقية والقومية بمصالح الطبقات المختلفة، وحين تبقى خاصةً في الجانبِ الأول من عمليات التحول، حارنةً جامدةً فيه، فتُقوي الفرقة وليس الحزب الديمقراطي، وتكرسلا الروحَ العسكرية في الجماعة السياسية ولطاعتها المطلقة للرئيس والشيخ والأمين العام، وكلما تأزمتْ عملياتُ الانتقال وترابطت وتداخلتْ مع أجهزةِ الحكم والشركات والمصانع والأراضي الزراعية تحول الجمودُ إلى عنفٍ وشمولية ساحقة، وتطلب الأمرُ طاعة حديدية وإلغاءً للعقل والتفكير المستقل والبحث الفكري الموضوعي.

مخاض التحول في أمة معقدة ذات إرث عنيف ومحافظ مجاورة لأمم أخرى وعاشتْ صراعات طويلة، يجعلُ الفِرقُ جيوشاً، ومستعدة للمذابح، وتغدو أعصابُها السياسية هائجةً مضطربة تكفي كلمة لإشعال الحرائق.

من هنا فإن عمليات الانتقال من الحياة التقليدية إلى الحياة الحديثة تؤسسُ أنماطاً مختلفة من التنظيمات السياسية وتنتقلُ من حالةِ السديم الاجتماعي والغموض الفكري وتأييد السحر والصوفية السياسية والفاشية(وجاءت التسمية من فاشي وهو شخص متعصب قوميا لوطنه الأوروبي)، ورفض الاختلاف، إلى التعبير عن جماعات ذات مصالح متباينةٍ متصارعة في كلٍّ وطني موّحدٍ، تبحثُ عن الاختلاف وتؤطره وتغوصُ في جذوره الاقتصادية والفكرية والاجتماعية وتحولهُ من عقدةٍ إلى مشكلة قابلة للحلول المختلفة الزمنية حسب طبيعة المشكلة وارتباطها بالظروف الموضوعية.

السديم الاجتماعي منتج الفرق جاء من غموضٍ في تطورِ الأمة أو الشعب، وخاصة بعدم قبول الطبقات المهيمنة فيه على الثروات المادية والروحية بالانفصال عن الملكيات العامة، وتداول الثروة أو عدم قبول العامة والخاصة في الطوائف بتداول المعرفة الحرة وبالاصطفاف الاجتماعي.

فحين لا تقبل بذلك وتعجز عن قراءة مشكلاتها بموضوعية وتتوحد بالمذهب والأسلاف والرموز الماضوية والأبطال الساحقين للغير وتواريخ القبائل والطوائف، وكل ما من شأنه تعقيد صورة الأمة، فإنها تصطدم بالعالم المحيط بها، وتتكسر.

تطور الأحزاب مرتبط بزوال السديم الاجتماعي الغامض في الطوائف وعدم التمييز بين مصالح القوى الاجتماعية، وهذا تكرسه التطورات الاقتصادية الجديدة وتحول العامة إلى طبقات منتجة، والخاصة إلى ملاك للمصالح الاقتصادية الكبرى ولأدوات الإنتاج، وهي أمور بطيئة في الدول الشرقية فتظل الفرق مستمرة وتتوغل حتى في الأحزاب، لأنها تعيش حياة قائمة على التفرق وعدم تبلور المجموعات المؤثرة الموحدة الكبير



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة