الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٦٦ - الثلاثاء ٣١ يناير ٢٠١٢ م، الموافق ٨ ربيع الأول ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

قضايا و آراء


المناضلان جورج حبش وأبوماهر في الذاكرة العربية





منذ أن تفتّح وعيي القومي في أواخر الخمسينيات، كان جورج حبش (الحكيم)، وأبوماهر، أحمد اليماني (المربي والمناضل) نجمين ساطعين في سماء الحركة القومية العربية، والحركة الوطنية الفلسطينية، بل كانا مجسدين بصدق وأصالة لذلك التلازم العميق بين العروبة كهوية، وفلسطين كقضية، مدركين أن ما من عربي صادق إلا وكانت فلسطين بوصلته، وما من فلسطيني مخلص إلا وكانت العروبة هويته.

ولا يتسع المجال هنا للحديث عن سيرة الرجلين الكبيرين المؤسّسين في حركة القوميين العرب، وفي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ففي كل تفصيل أو محطة أو منعطف من تلك السيرة ما يحتاج إلى كتاب بأكمله يضم في صفحاته نضالا مشرقا جنباً إلى جنب مع دروس وعبر تضيء لنا الطريق، وتنير درب الكفاح الطويل، بل في تلك السيرة ما يعلمنا كيف يكون النضال تفانياً، والكفاح عطاء غير محدود، والسلوك منزهاً من كل غاية، والممارسة محكومة بالأخلاق والفضائل.

فالرجلان لم يكدّسا الأموال في الخزائن، والأرصدة في المصارف، فرحلا وهما غنيان في أنفسهما، فيما كثيرون ممن اشتروا الضلالة بالهدى بقوا فقراء في النفس والروح والعقل، غير أنني وفي هذه اللحظات بخاصة، سأسعى لكي أجيب مع كل واحد منكم، ولاسيّما مع عارفي القائدين المناضلين عن سؤال بسيط: ماذا لو كان حارس الثوابت الوطنية والقومية الدكتور جورج حبش، وضمير فلسطين والأمة أبوماهر اليماني بيننا اليوم؟

أول ما كان سيفعله الرجلان اللذان جمعتهما رحلة كفاح طويلة امتدت إلى أكثر من نصف قرن، هو تأكيد ضرورة أن تبقى فلسطين هي البوصلة لكل حركة أو تيار أو برنامج أو ثورة أو انتفاضة، فمن يقترب من فلسطين يعتزّ، ومن يبتعد عنها يهتزّ ويتراجع وينهار.

ففلسطين للرجلين، كما لكل مناضل أو مجاهد، هي المقياس والمعيار، هي المنارة والكاشف، بل هي المعبر لتحقيق كل أهداف الأمة.

وثاني التزامات الرجلين، كان في التمسك بأهداب المشروع النهضوي العربي، والسعي إلى ترجمته حقائق وحركة نضالية وبرامج تفصيلية في أرض الواقع، فلا مقايضة بين هدف وآخر، ولا تفضيل لعنصر من عناصره على العنصر الآخر، فالوحدة العربية والديمقراطية والاستقلال الوطني والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية والتجدد الحضاري أهداف مترابطة متكاملة كلما خطونا خطوة باتجاه أحدها كنا نتقدم باتجاهها جميعاً.

وثالث ما كان الرجلان سيتمسكان به هو المقاومة كسلاح وكخيار وكنهج وثقافة، لأنهما يدركان أن اللغة الوحيدة التي يفهمها أعداء أمتنا هي لغة المقاومة، خصوصاً أن وعيهما الوطني والقومي قد تكوّن منذ النكبة في رحم المقاومة، وأن كفاحهما منذ أيام عملهما الوطني والقومي كان مرتبطاً بالمقاومة بكلّ أشكالها ومستوياتها، ولقد جاءت العقود العربية الماضية، كما القرون السالفة، لتثبت صحة هذا الخيار، سواء في لبنان حيث كان التحرير وردع العدوان، أو في فلسطين حيث الصمود الأسطوري، أو في العراق الذي هزمت مقاومته المحاصرة من كلّ حدب وصوب الدولة الأكثر قوة والكبرى في العالم.

ورابع الثوابت في حياة الرجلين كان الحرص على وحدة وطنية فلسطينية، وجبهة شعبية عربية، فالوحدة الوطنية الفلسطينية المرتكزة على برنامج التحرير والعودة هي ركيزة المقاومة ودعامتها الأساسية، كما أن جبهة شعبية عربية تضم كل القوى الملتزمة بمشروع النهضة العربية هي الطريق الأقصر والأسلم لمواجهة كل التحديات الخارجية منها أو الداخلية، فالعمل الجبهوي ذو الجذور الشعبية ليس مجرد جمع للقوى فحسب، بل هو رؤية وسلوك ومنهج لا مكان فيه لعقلية الاستئثار والاحتكار، الإقصاء والتفرّد، الاستئصال والاجتثاث.

ولو كان جورج حبش وأبوماهر اليماني بيننا اليوم، لوجدتهما، كعادتهما، في أحد ميادين الثورة الشعبية العربية أو ساحاتها، يسعيان إلى إسقاط أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية، كما لتحصين هذا الحراك بوجه كل محاولات التدخل الأجنبي، بكل أشكاله، من أجل تحويل الثورة إلى فوضى، ووحدة الشعب إلى عصبيات وانقسامات، وثوابت الأمة إلى مناورات ومساومات.

ما كان أبوميساء وأبوماهر ليقبلا أبداً أن يختصر حراك الجماهير المغمس بدم الشهداء في مؤامرة مشبوهة، كما لن يقبلا أيضاً أن تمتد خفية أيد مشبوهة للعبث بهذه التضحيات.

بل لو كان القائدان الكبيران معنا اليوم، لباركا من دون شك جهداً تقوم به المبادرة الشعبية العربية لمناهضة التدخل الأجنبي في سوريا ودعم الحوار والإصلاح، انطلاقاً من إدراكهما العميق مشروعية المطالب الشعبية السورية من جهة، وبمخاطر الأجندات الخارجية المشبوهة.

وكما كان سيفعل الحكيم وأبوماهر اليماني تماماً، فلقد التزمنا في هذه المبادرة التي تقوم بها مؤتمرات وهيئات عربية منذ البداية هدفاً واضحاً هو «متاريس في وجه أعداء سوريا، وجسور بين أبنائها»، وبدأنا اتصالاتنا وحواراتنا أولاً مع الرئيس الدكتور بشار الأسد وأركان القيادة السورية، بتأكيد تقديرنا العالي لمواقف سوريا وموقعها في الصراع مع أعداء الأمة، وحرصنا في الساعات الثلاث ونصف الساعة التي جمعتنا بالرئيس الأسد، أن نتحاور بكلّ جدّ وودّ ومسؤولية بكل تفصيل يتصل بالشأن السوري انطلاقاً من أن للأزمة وجهين: داخليا يحتاج إلى معالجة، وخارجيا يتطلب المواجهة.

وكما كان سيفعل الحكيم وأبوماهر أيضاً باشرنا الاتصال مع قوى المعارضة الوطنية السورية لكي نسهم في إطلاق حوار وطني شامل هو الطريق الأسلم والأنجح لوقف سفك الدماء وتحقيق التغيير المنشود، والتأكيد أن الحل هو سوري - سوري بعيدا عن كل محاولات التدويل التي شهدنا نتائجها في أكثر من ساحة وأكثر من قطر.

ولو كان الرجلان معنا اليوم لواجها بحزم وقوة تلك الدعوات الرامية إلى تحويل الملف السوري إلى مجلس الأمن، مدركين أن سلامة المطالب الشعبية السورية لا يمكن أن تتحول منصة لتدمير سوريا البلد والوطن والمجتمع، بل لو كان الرجلان معنا اليوم لوقفا بشدة ضد تدخل (الناتو) في ليبيا الذي ادّعى حماية المدنيين فإذا به يقتل عشرات الالاف منهم، وادّعى مساعدة الشعب الليبي، ومازال يحتفظ بمليارات الدولارات من أموال هذا الشعب بانتظار تقاسم كعكة النفط والاعمار الليبيين.

ومثلما وقف الرجلان، مع كل أحرار الأمة والعالم، ضد الحصار على العراق وضد العدوان والاحتلال إدراكاً منهما أن هدف المستعمرين لم يكن نظاماً أو حزباً أو رجلاً بعينه، بقدر ما كان الهدف تدمير العراق وضرب وحدته وطمس عروبته، فهما يدركان اليوم أن المستهدف في سوريا ليس نظاماً أو حزباً أو رجلاً بقدر ما هو موقف وموقع، وطن وشعب، تاريخ وتراث، لأن سوريا شكّلت منذ استقلالها عقبة كأداء في وجه المخططات المعادية.

ومثلما وقف الرجلان وأسهما مع جمال عبدالناصر والبعث وكل قوى التحرر في الأمة في إسقاط حلف بغداد، ومشروع ايزنهاور، وقبلهما حلف السنتو، فإنهما كان سيقفان اليوم على رأس كل المقاومين والمجاهدين من إسلاميين وقوميين ويساريين وليبراليين وطنيين لإسقاط مشاريع الشرق الأوسط الاستعمارية الجديدة ولكل متفرعاتها الرامية إلى تقسيم المنطقة وتقزيم الأمة.

في لحظة الوفاء هذه، نحيي الراحلين الكبيرين ومعهما الشهيد الكبير أبوعلي مصطفى، وغسان كنفاني، وغيفارا غزّة وكل شهداء الجبهة الشعبية والثورة الفلسطينية والمقاومة العربية، كما نحيّي المناضل الكبير أحمد سعدات أمين عام الجبهة في المعتقل، ومعه كل الأسرى والمعتقلين الأبطال، مصابيح الحرية في الأمة، ونعاهدهم أننا على العهد باقون حتى تحرير كل شبر من أرضنا، وكل مكوّن من مكوّنات ارادتنا.

* الرئيس المؤسس للمنتدى القومي العربي



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة