أدبني ربي (٢)
 تاريخ النشر : الجمعة ٢٤ فبراير ٢٠١٢
عبدالرحمن علي البنفلاح
قال الله تعالى ممتنا على رسوله ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم: «ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما» (النساء/١١٣).
وفي القرآن العظيم آيات تدل دلالة واضحة على عناية الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم، وتربيته له وتأديبه إياه، من ذلك قوله: «ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا (٢٣) إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا (٢٤)» (الكهف).
وقال المفسرون ان من أسباب نزول هذه الآية أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما سألته قريش الأسئلة التي علمها إياهم يهود المدينة، قال لوفد قريش: غداً أخبركم، ولم يستثن، أي لم يقل: إن شاء الله، فاحتجب الوحي عنه خمسة عشر يوماً حتى أشاع أهل مكة عنه: أن رب محمد قد قلاه، واشتد الأمر على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم جاءه جبريل عليه السلام بآيات من سورة الكهف فيها عتاب وتربية له، وفيها أجوبة عن أسئلة قريش له فأخبره عن فتية أهل الكهف، وعن الرجل الذي طاف المشارق والمغارب، وعن الروح، ثم جاء التأديب الإلهي له في قوله تعالى: «ولا تقولن لشيء إني فاعلٌ ذلك غدا، إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت...» (الكهف/٢٣، ٢٤).
هذا لون من ألوان الأدب الإلهي لرسوله صلى الله عليه وسلم.
وفي سورة عبس جاء تأديب آخر، ودرس إلهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان صلوات ربي وسلامه عليه يتصدى لقادة وزعماء قريش يدعوهم إلى الإسلام، وعندها جاءه الصحابي عبدالله بن أم مكتوم (الأعمى) يسأله في أمر من أمور دينه، فعبس في وجهه، ورغم أن ابن أم مكتوم أعمى لا يرى عبوس رسول الله، ورغم أن الرسول، صلى الله عليه وسلم كان منشغلاً بالدعوة فإن هذا لم يكن عذراً مقبولاً لعبوسه في وجه ابن أم مكتوم، وسجل الحق تبارك وتعالى ذلك الموقف في قرآن يتلى إلى يوم القيامة، ويتعبد به المسلمون في صلواتهم، يقول الله تعالى: «عبس وتولى (١) أن جاءه الأعمى(٢) وما يدريك لعله يزكى(٣) أو يذكر فتنفعه الذكرى(٤) أما من استغنى(٥) فأنت له تصدى(٦) وما عليك ألا يزكى(٧) وأما من جاءك يسعى(٨) وهو يخشى(٩) فأنت عنه تلهى(١٠)» (عبس).
هكذا عاتب الله تعالى رسوله، صلى الله عليه وسلم عندما عبس في وجه ابن أم مكتوم رغم أنه أعمى لا يرى، ولكن الله تعالى يرى وأراد أن يعلم رسوله، صلى الله عليه وسلم درساً، ويعلم أمته من بعده من خلال هذا الدرس.
وموقف آخر تعرض له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأدبه ربه من خلاله، فأحسن تأديبه، هو موقفه من زيد بن حارثة وزوجه، والقصة معروفة لنا جميعاً عندما زوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم ابنه بالتبني زيد بن حارثة، وذلك قبل أن يحرم التبني، من زينب بنت جحش ابنة عمته صفية بنت عبدالمطلب، وكانت زينب كارهة لهذا الزواج، ولم تقبل به في بداية الأمر حتى نزل قوله تعالى: «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا» (الأحزاب/٣٦).
عندها قبلت زينب وأخوها عبدالله بن جحش هذا الزواج، ولكنه زواج لم يدم طويلاً، وكان زيد يشكو إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم ترفع زينب عليه، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم يوصيه بالصبر، ويقول له: أمسك عليك زوجك، فنزل في شأن هذه القضية قوله تعالى: «وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا» (الأحزاب/٣٧).
هذه دروس ثلاثة، وغيرها كثير في القرآن الكريم أدب الله تعالى بها رسوله، صلى الله عليه وسلم، وعلمه في شئون دينه ودنياه ما لم يكن يعلم حيث تولى الله تعالى وحده رعاية رسوله وتأديبه ولم يدع ذلك لبشر مهما علا شأنه، فلا يصح أن يتلقى رسول الله، صلى الله عليه وسلم العلم من بشر سواء كان أباه أو أمه أو جده، بل لابد من أن يكون مصدر علمه وأدبه هو الله تعالى.
.