الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤٠١ - الثلاثاء ٦ مارس ٢٠١٢ م، الموافق ١٣ ربيع الثاني ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

يوميات سياسية


ثروت عكاشة والعصر الذهبي للثقافة





تحدثت بالأمس عن الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة في عهد عبدالناصر الذي رحل قبل أيام وعن انجازاته الهائلة، وعن العصر الذهبي للثقافة في ذلك العهد، وتساءلنا عن العوامل التي يمكن ان تفسر هذه النهضة الثقافية.

وحين نقول ان الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، شهدت العصر الذهبي للثقافة في مصر، فهذا هو ما يجمع عليه الكل بمن في ذلك حتى الذين ينتقدون النظام الناصري.

هذا العصر كان عصر نهضة كبيرة في كل ميادين الثقافة بمعناها الشامل. في هذا العصر، شهدت مصر نهضة كبرى في مجالات الابداع والانجاز في مجالات، الفكر، والأدب، وفي مجال النشر، وفي المسرح والفنون عامة.

عوامل كثيرة توافرت وقادت إلى هذه الانجازات التي حققها ثروت عكاشة في مجالات الثقافة، وإلى النهضة الثقافية العامة في تلك الفترة.

ولعله يمكن تلخيص أهم هذه العوامل فيما يلي:

أولا: ان النظام في تلك الحقبة في عهد عبدالناصر كان لديه مشروع وطني قومي كبير للنهضة والتقدم وتحقيق الاستقلال الوطني، ويعمل من أجل تنفيذ هذا المشروع.

هذا المشروع الوطني القومي للنهضة بأهدافه وغاياته الطموحة، وسعي النظام المخلص إلى تنفيذه على ارض الواقع، كان بحد ذاته اكبر حافز للابداع في كل المجالات. هذا المشروع بث روحا جديدة في المجتمع، واستنفر القدرات والامكانات الابداعية، وأعطى الأمل في المستقبل. والأمل بدوره هو من أكبر حوافز الابداع.

بعبارة أخرى، كانت الانجازات الثقافية التي تحققت في عهد ثروت عكاشة جزءا من هذا المشروع الوطني العام. لم تتحقق في فراغ ولا كانت معزولة عن سياق النهضة في المجتمع. وما كان لها ان تتحقق أصلا لولا وجود هذا المشروع.

ثانيا: ان الثقافة بمعناها الشامل كانت تحتل مكانة محورية في مشروع النهضة في عهد عبدالناصر.

بعبارة أخرى، كانت قناعة النظام الراسخة ان الثقافة ليست ترفا، وانما هي أداة أساسية من ادوات تحقيق التقدم المنشود.

وترتب على هذا الوعي ان الدولة أعطت أولوية كبيرة لدعم الثقافة ولرعاية الابداع في كل المجالات.

ثالثا: ان ثروت عكاشة نفسه كان مثقفا مرموقا، وكان على وعي بالتحولات الثقافية التي يشهدها العالم، ومنفتح على الثقافات العالمية عامة.

بعبارة أخرى، لم يكن ثروت عكاشة مجرد موظف عام يعمل في مجال الثقافة او يدير شئون القطاعات الثقافية المختلفة.

كان هو نفسه صاحب رؤية لدور الثقافة ودور المثقفين في بناء النهضة. وهي رؤية كانت مستمدة بالطبع من المشروع الوطني القومي في تلك الحقبة.

ومن واقع كتاباته، وسياساته الثقافية حين كان وزيرا، يمكن تلخيص أهم ملامح رؤيته هذه في جوانب ثلاثة:

١- ان الثقافة يجب ان تكون على رأس اهتمامات الدولة . كان يرى باستمرار ان الدولة هي المسئول الأول عن النهوض الثقافي وعن رعاية المثقفين والمبدعين.

٢- ان الثقافة ليست أمرا يخص النخبة فقط، وانما يخص كل الشعب، ان كان لها ان تسهم في التقدم فعلا. ولهذا، كما ذكرت بالأمس، كانت انجازاته في مجال الثقافة الجماهيرية، وفي نشر الحراك الثقافي على امتداد مصر كلها، من أهم انجازاته على الاطلاق.

٣- انه لا يمكن تحقيق نهوض ثقافي من دون الانفتاح على ثقافات العالم كلها، ومن دون حريات تتاح للمثقفين.

ولأن ثروت عكاشة كان مثقفا وصاحب رؤية على هذا النحو، ولم يكن مجرد موظف عام فقد انحاز في مواقف كثيرة إلى حريات المثقفين.

من هذه المواقف مثلا ما رواه رجاء النقاش عما حدث حين أصدر الروائي الكبير نجيب محفوظ روايته الشهيرة «ثرثرة فوق النيل» عام .١٩٦٦ في ذلك الوقت، حاول احدهم تحريض عبدالناصر على محفوظ، وأبلغه ان الرواية توجه انتقادات حادة إلى ثورة يوليو وتركز على سلبياتها. عبدالناصر سأل ثروت عكاشة عن الرواية وعن هذا الكلام، فقال له: «إذا لم يحصل الفن على هذا القدر من الحرية، فلن يكون فنا». واقتنع عبدالناصر بكلامه وانتهت القضية.

ولأن ثروت عكاشة كان مثقفا كبيرا، فإنه ومنذ ان ترك الوزارة وحتى رحيله، تفرغ للابداع الثقافي والفكري، وترك للمكتبة العربية عددا من الكتب التي تعتبر علامات اساسية واسهاما فكريا كبيرا، من بينها مثلا موسوعته الفريدة عن الفنون الأوروبية، وعمله الكبير عن القيم الجمالية في العمارة الإسلامية.

رابعا: ان ثروت عكاشة استعان في تحقيق هذه الانجازات الثقافية الكبيرة بافضل العقول والمثقفين في مصر الذين كانون مستشاريه وتولوا المواقع الثقافية المختلفة. كما انه أعطى فرصا هائلة لجيل الشباب الذين أداروا المؤسسات الثقافية المختلفة.

هذه إذن، باختصار شديد بالطبع، هي أهم العوامل التي تفسر الانجازات الثقافية الهائلة التي تحققت في عهد تولي عكاشة لوزارة الثقافة في عهد عبدالناصر، وقادت الى ما نسميه، عن حق ، العصر الذهبي للثقافة في مصر.

وبالمناسبة، هذه العوامل نفسها.. أو بمعنى اصح غيابها، هو الذي يفسر الانحسار الثقافي الذي شهدته مصر في العقود التي تلت عصر عبدالناصر.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة