الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤١٨ - الجمعة ٢٣ مارس ٢٠١٢ م، الموافق ٣٠ ربيع الثاني ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


العاجلة





من أسماء الدنيا (العاجلة) جاء ذلك في قوله تعالى: «من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحورا»(الإسراء/١٨).



ووصفت الدنيا بهذا الوصف لأن الإنسان فيها يستعجل نصيبه من المتع سواء أكانت من الحلال أم من الحرام، ويتجلى ذلك الاستعجال فيما يرتكبه الإنسان من معاصٍ يريد بها الوصول إلى ما يشتهيه من متع لم يأت بعد أوانها، فدونها قلة الإمكانات، والعجز عن بلوغ الأسباب، كالذي يستعجل موت والده ليرثه، فيقتله أو يسلط عليه من يقتله لينال ما يريد قبل أوانه، ولو انتظر حتى يأتي أمر الله تعالى لكان المال الذي يصل إليه حلالاً من حقه أن يستمتع به، ولكنه استعجل ذلك فعوقب على استعجاله بحرمانه منه، بل حرمانه أيضاً إما من حريته بالسجن، وإما من حياته بالقصاص.



الله تعالى يعجل لمن يريد العاجلة وما فيها من متع زائلة ولا يكون ذلك بإجباره على ارتكاب ما نهى عنه الله تعالى من معاصٍ، بل بتحقيق ما يسعى إليه هذا المستعجل، لأن الله تعالى ترك للإنسان حرية الإرادة في الإقبال عليه، أو الإعراض عنه، فقال تعالى: «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا» (الكهف/٢٩).



والإنسان في هذه الدنيا في صراع دائم مع طموحاته وإمكاناته، فلا عيب ولا حرج من أن يكون للإنسان طموحات عالية تفوق إمكاناته، فذلك أمر مشروع وهو من أسباب تقدم البشرية وإبداعاتها، ولكن يجب إن يحقق الإنسان طموحاته المشروعة بوسائل مشروعة، فالإسلام لا يقر القاعدة الاستعمارية القائلة: الغاية تبرر الوسيلة، التي غزت بها البلاد الغربية بلاد الإسلام واستعمرت دوله، وأخضعت شعوبها للذل والمهانة، لأنهم في سبيل تحقيق مصالحهم وغاياتهم يستبيحون كل حرام، ويسفكون كل دم، ويهتكون كل عرض.



والإسلام بمثله العظيمة، ومبادئه السامية لا يصادر حق الإنسان في أن يطمح، ويتمنى واقعاً غير واقعه، ومنزلة غير منزلته، ولكنه يؤكد أن الطموحات المشروعة لابد أن يحققها صاحبها بوسائل مشروعة، فشرف الغايات يقتضي شرف الوسائل، وفي الإسلام (نعم المال الصالح للرجل الصالح)، فإذا اختلت هذه المعادلة تدخل الإسلام ليكف أيدي العابثين عن أن تعيث فساداً في المجتمع بحجة أن للناس طموحات من حقهم أن يحققوها.



والسؤال الذي قد يتبادر إلى عقل القارئ ووعيه هو: هل هناك عيب في أن يستعجل الإنسان المتع الحلال إذا استبطأ زمنها؟ والجواب: للإنسان أن يستعجل ما تأخر بأن يجعل تلك الطموحات من أولوياته بحيث يقدمها على غيرها، وأن يستعين بالدعاء إلى الله تعالى أن يعجل له ما تأخر، وأن ييسر له ما تعسر، ولكن بالسبل المشروعة، وبالوسائل الشريفة، وليس له أن يحقق ما يريد ويشتهي حتى لو كان ذلك بالخروج على منهج الله تعالى، وتجاوز الحدود التي رسمها الحق تبارك وتعالى، وحذر من الاعتداء عليها، أو تجاوزها.



والدليل على أن المنهي عنه هو الاستعجال المفضي إلى ارتكاب ما حرم الله تعالى من الوقوع في المعاصي، والولوغ في الشهوات التي نهى الله تعالى عنها، دليل ذلك قوله تعالى: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحورا) الإسراء/.١٨



وجهنم عقوبة لمن انتهك محارم الله تعالى، وداوم عليها من أجل تحقيق شهوات مؤجلة لم يحن بعد أوانها، والوصول إلى تحقيق طموحات عجزت وسائله وإمكاناته المشروعة عن تحقيقها، فهو في سبيل الوصول إلى ما يشتهي ويريد يسرق المال، ويعتدي على العرض، وقد يزيح خصومه أو منافسيه من طريقه، فكل هذه جرائم يستحق عليها هذا الإنسان جهنم وبئس المصير.



ونعود مرة أخرى لنؤكد أن الإسلام يريد لأتباعه الريادة والتفوق وتحقيق الطموحات المشروعة، ولكنه يريد لهم الاستقامة وهم يسعون لتحقيق هذه الطموحات من دون أن تشوبها شائبة حتى يكون استمتاعهم بها خالياً من أي شائبة تخالف منهج الله تعالى.



فهل تريدون العاجلة باستحقاقاتها، وما تحمله من منغصات أم تعملون لتنالوا الجائزة الكبرى التي أعدها الله تعالى لعباده المؤمنين الذين نهوا النفس عن الهوى، وانقادت طموحاتهم المشروعة إلى أوامر الله تعالى ونواهيه؟



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة