الأرضُ تحت الأنقاضِ
مشاهدٌ روائيةٌ من غزو (١٣)
 تاريخ النشر : السبت ٢١ يناير ٢٠١٢
بقلم: عبدالله خليفة
الأستاذ قيسُ المثقف الكويتي المنظرُ للوحدة العربية يخرج من بين الأنقاض ليجد بلده محتلا، والفوضى في كل مكان، ويقوم الملازم عبدالرحمن المختار بعرضه على عائلته ليتذكر، لكن المناضل الوحدي تشتعل ذاكرته بأخطائه ويمسرح ماضيه في مشاهد، فيما تعيش سلمى في نفس الموقد وتُجر عائلتَهُ إلى الموقد المشتعل.
٢٠
جثمتْ مريم على السرير، وابناها حولها، يبللان وجهَها بالماء البارد، يرضعانها الليمون والكلمات الحانية، وهي بين الغفو والكوابيس، فيبتعدُ لؤي قليلاً عن السرير، وينفجرُ في بكاء غامر، ضارباً الجدار بحدة، يلتفتون إليه، حتى الأم رفعتْ رأسها، وبدأ يتضرع:
- يا الله يا رب العزة والجلالة أحمنا. لقد أخطأنا كثيراً، أجرمنا بحق أرضنا وديننا، استهترنا بكل شيء .. تبْ علينا.
تحدق فيه فاتن وهي تقترب منه، كأنها ترى تضاريس وجهه أول مرة، تقول:
- لماذا تتحدث هكذا؟ ما الذي أجرمناه؟ كيف انقلب المثقف فجأة إلى مطوع؟
- كل هذه العيشة المليئة بالاستهتار والفسق والفجور، كل هذا البذخ والسفرات والقمار وملء بطون الفقيرات بالأطفال وتركهم في البلدان البعيدة، كل هذا الشرب، ولم نفعل شيئاً؟ متى ستلتفتون إلى هذا العقاب الإلهي، وتكفرون عن آثامكم؟
فاتن مذهولة، كأن كل هذه الفواجع لا تكفي، غياب الأب، وتعذيب الأم، والجحافل من الملابس البنية الطاعونية، والسلاح الذي يخز الأهداب، حتى ينفجر لؤي بهذه الكلمات الغريبة المفجعة بعد المصطلحات الغربية الغريبة.
- ماذا بك تصدع بيتنا، كثيرة هي الأخطاء العامة لكننا لم نخن وطننا مرة واحدة، واحدة؟
- أُصدع؟.. ما هذه الكلمة الغريبة، إنني أبحث عن سكة أخرى غير تلك التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه، سكة بعيدة عن كلمات أبي، تذكري كم كان بيتنا مليئاً بصور الزعيم المحبوب، وكراساته، وملصقاته، وحين كومناها لنلقيها في النار تلحفنا بأثواب الظلام خوفاً من جنوده المنتشرين، وخشية من سخرية وغضب الجيران، لم نكن نفطر إلا على أناشيده وننام على الحلم العربي وشعلِهِ المنطلقةِ إلى النجوم.
تجلس فاتن على مقعد، كأنها تتهاوى، في حين كانت الأم تنهض ببطء:
- يا ولدي لقد أصبحت قاسياً. لم يكن الشمال كله أخطاء. ثمة عصابة استولتْ على كل شيء. كان مناضلون يحذرون أباك ولم يهتم، حتى أنا بعد تحذيراتٍ ورفض يئستُ.
راح يدور في الغرفة، مثل دوامة تحفر في الأرض والزمن، نافضةً الأشلاءَ والدماء والوحول:
- كنا نذهب الى التعاونيات والمدارس والملاجئ نجمعُ النقودَ والمعلبات والأدوية لجنودهم الذين يقاتلون على الجبهة الشرقية، كنا نأخذ من الأطفال مدخراتهم وهم فخورون بكسر حصالاتهم وتسليمها إلينا لكي نوصلها إلى أيد ستذبحُ اخوةً لنا في الدين، لابد من صلواتٍ كثيرةٍ عميقة لكي يغفر لنا الله إذا شاء.
فاتن محتقنة بالدمع، وتتراءى بحيراتٌ من النار والماء المشتعلين، ويظهر رجالُ الجيش العراقي يخترقون الأسلاكَ وجثث الأطفال، وثمة أحذيةٌ تقتحمُ الأبواب، وملابسٌ تُمزق، ووجوه صبايا مرعوبات، وحقولٌ من هشيم الأعواد المحترقة، والكلمات النافقة، والحشود الكاذبة، والكتب الزائفة، والجثث الحية الناطقة المتعالية.
كم كانت صورُ التلفزيون غريبة قبل فترة نائمة! عدةُ مذيعين يتناوبون على الإشارة لخريطةِ مثلثٍ صحراوي يقعُ في الشمال الغربي للخليج. قامت القوات، عبرتْ الحدودَ، خرجَ العراقُ مفلساً من حربهِ مع إيران. النفطُ، الأسعارُ المخفضةُ، الدولةُ الجائعةُ للحمِ الشهي الجديد، الأموالُ، تهديداتٌ، القادةُ الأمريكيون في عطلاتٍ متعددة، وزيرُ الخارجية الأمريكي في آسيا يحضر سباقاً للحيوانات.
تصحو الآن على جملةِ كوابيس.
لكنها لم تغطسْ في بركِ الماء المسموم، تغلغلتْ في عينها ريشٌ من البط الميت وأصابع مقطوعة لبحارة غرقى، ونهضت وهي تتساءلُ عن هذه الجموع الممغنطة المُساقة إلى مربعات الموت والنسيان، وراحت تحفرُ صامتةً في البيت، بهذا الكرنفال للأجساد الخالية من الرؤوس، وتنصتُ إلى همس وعويل الأمهات، فترى الطاعونَ البُني وهو يجتاحُ أرضَها.
كانت تخشى أن تقول شكوكها وأسئلتها لأبيها، وينفجرُ بالغضب الشديد حالما يلقي المرء سؤالاً، والعالم لديه كله خونة أو مخلصون أنقياء، يعبدُ تلك الآلة الجهنمية العسكرية، ويراها كالسكين يشطرُ الزبدةَ حتى يصل إلى رأس الطفل. وهو يُلقي بسنيه وخمس راتبه إليها وهي تزدادُ تضخماً حتى ابتلعت كلَ شيء. كان أبوها، يتحدث طويلاً وهو في حماس شديد، ولم تعطه الحرب، أي تحسس للدورِ والنساء والمزارع المحروقة، ولا يرى سوى خريطة عليها أزرار ملونة تتقدم، على الملمسِ الناعم للنايلون. وهي كانت صامتة، متخاذلة في ذاتها، جبانة، تحسب ان أي شيء يقولهُ الأبُ العظيم هو أمر صعب تجاوزه، هو شيءٌ صحيح ولكنه بغيض حتى اختفت الأزرار والخريطة.
ولم يزل لؤي يتحدث، متابعاً أفكارها من الخارج، كأنه في رأسها، وهي دهشة من تحسسه لخطواتها ومشاركته أصداء روحها:
- وكنتِ أنتِ التي تنبهينه إلى ذلك الانزلاق، ترفعين رأسك فجأة وتقولين: كيف نثق بمن لا يرعى للجار حرمة؟ وهو ينظر إلى تساؤلاتك ويقول هذه هي السذاجة النسائية، ومرة صرختِ وقلتِ: لا يمكن القبول بكل هذه الدماء.
قالت بحزن:
- ولكنني تلفظت فقط ببضع كلمات، وداخلي كان يغلي.
- ما منعك أن تقولي كل شيء؟
- لا أعرف.
- تمثالُ أبي كان كبيراً يملأ البيت كله.
- الآن ستضع تمثالاً آخر مكانه، ألا يمكن أن تفكر بشيء من الحرية؟ ألم تعلمك فرنسا المقاومةَ الحرة؟
- من أنا لأقود؟
- اسمع كلماتي إذاً.
- أنتِ امرأة.
- بل لأنني لم أكن »جريئة« بما فيه الكفاية.
- سأقول لك، لأنكِ لم تمسكي صراطاً مستقيماً، كنت متشبثة بالغيمة السوداء القادمة من هناك، حان الآن موعدنا مع النور يا أختي، الحراب التي انغرزت في عيوننا أوضحت من أي معدن هؤلاء.
سمعوا جرسا قويا يهز البيت، ولم يتوقف. أسرع لؤي فظهر العريف خضر ومعه حشد من البشر. تغلغل القادمون في البيت، وهم يحدقون مبهورين في الأثاث والغرف الواسعة، وراحوا يتلمسون الكراسي والخزائن وأدوات الطعام وراء الزجاج البراق.
قال خضر بابتسامة بدت رهيبة:
- هذه الأسرة من المواطنين سوف تشارككم في هذا البيت بسبب الظروف القائمة.
(يتبع)
.
مقالات أخرى...
- رعبُ الحصار في مركزِ الشيخ إبراهيم الثقافي - (21 يناير 2012)
- ضجر باسمة العنزي لايزال مفتوحًا - (21 يناير 2012)
- صوتُ الاثنين - (21 يناير 2012)
- قضايا ثقافية الشعر وفكرة الجمال - (21 يناير 2012)
- مقــاطــع - (21 يناير 2012)
- الجميـلة في عباءتها الزرقـاء - (21 يناير 2012)
- في «الإمبراطور الصغير» للروائي محمد عبدالملك صراعٌ لا ينتهي - (21 يناير 2012)
- قصة قصيرة الرجــــــل السعيــــد (٢) - (21 يناير 2012)
- دراما تركية وخراب بيوت عامرة - (21 يناير 2012)