الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤٤٩ - الاثنين ٢٣ أبريل ٢٠١٢ م، الموافق ٢ جمادى الآخرة ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


حرب الفقراء وخطايا السياسة





بغض النظر عمن هو الطرف المسئول عن إشعال فتيل الحرب بين شمال وجنوب السودان، فإن الحقيقة التي لا جدال ولا غبار عليها هي أن شعب السودان بشقيه هو الخاسر الأكبر ليس فقط على الصعيدين الاقتصادي والمادي وإنما على الصعيد الاجتماعي إذ من المؤكد أن هذه الحرب غير المقبولة وغير المجدية ستلقي بظلالها على العلاقات المتشابكة في أبناء السودان، هي العلاقات التي نسجتها عقود من العيش المشترك والتداخل الاجتماعي والاقتصادي وهي القيمة والثروة التي لا يجوز تحت أي ظرف من الظروف أن تمس أو أن تتعرض لخطر الهتك، كما يحصل الآن وخاصة بعد أن أعلن السودان (الشمال) دولة الجنوب دولة عدوة ووصف قيادتها «بالحشرة» وبأنه «عازم» على تخليص شعب الجنوب منها.

كان من المتوقع أن تبقى الخلافات بين شمال وجنوب السودان عالقة ومرشحة للتصعيد، وخاصة بعد إعلان استقلال الجنوب عن الشمال وإقامة الدولة المستقلة في جوبا، فعقود طويلة من الاقتتال بين الطرفين الذي خلف مئات الآلاف من القتلى والمصابين والترحال القسري للسكان من أماكن إقامتهم الأًصلية تمثل جروحا نازفة وأسهم في استمراريتها الآلة الإعلامية للطرفين قبل وبعد الانفصال، ثم جاءت الخلافات على رسوم مرور النفط الجنوبي عبر أراضي شمال السودان حيث تمر شبكة الأنابيب ومطالبة الخرطوم برسوم تصل إلى ٣٠ بالمائة عن كل برميل نفط، فزادت «الطين بلة»، كما يقول المثل، الأمر الذي هيأ الظروف الموضوعية لنشوب هذه الحرب.

لن نتحدث عن خطأ تقسيم السودان إلى دولتين ولا عن الأسباب التي دفعت بالجنوبيين إلى تفضيل هذا الخيار على خيار البقاء في دولة موحدة ولا عن الطرف الذي يتحمل الجزء الأكبر من مسئولية المصير الذي آلت إليه دولة السودان، فتلك قضية أخرى ليس هناك من جدوى الحديث فيها بعد أن «وقعت الفأس في الرأس» وأصبحت الخريطة الجيوسياسية للسودان واقعا غير قابل للتغيير، على الأقل في المنظور القريب، ما يهم الآن هو الحديث عن هذه الحرب المجنونة التي لن يخرج منها منتصر ومهزوم، وبغض النظر عن الانجازات العسكرية التي قد يحققها هذا الطرف أو ذاك، فإن الطرفين سيخرجان منها مهزومين، والقيادة في الدولتين تتحملان كامل المسئولية عن الأضرار التي ستلحق بالعلاقات الاجتماعية بين أبناء السوادنين.

فقيادتا الدولتين تجران شعبيهما إلى ساحة الخلافات السياسية وهما (الشعبان) اللذان ليس من مصلحتهما على الإطلاق نشوب مثل هذه الحرب لأن الشعبين هما اللذان سيدفعان فواتيرها المادية والاجتماعية، فالتصعيد الإعلامي الذي يصور هذا الطرف أو ذاك بالعدو، قد تراه القيادة الشمالية والجنوبية مادة سياسية تصب في خدمتها وتعينها على إدارة الصراع العسكري أو السياسي، ولكن ذلك في محصلتها النهائية يغذي النزعات العدائية لدى بعض الفئات عند الشعبين وهو أمر غير مفيد للبلدين على المدى البعيد، ذلك أن العلاقات التاريخية بين الشعبين يجب أن تبقى في منأى عن أي صراعات سياسية أو عسكرية بين قيادتي الدولتين.

فليس من مصلحة الشعبين على الإطلاق أن تتحول الخلافات السياسية إلى حالة من العداء والصدام المسلح، والحرب الشاملة التي تتحدث عنها قيادة الشمال أكثر من القيادة الجنوبية، فيكفي أن الشعب السوداني بشماله وجنوبه خسر سياسيا واقتصاديا واجتماعيا جراء تقسيم الدولة السودانية إلى دولتين، فلا يجب مضاعفة هذه الخسائر بمثل هذه الأعمال التي لا يمكن وصفها سوى بالأعمال غير المسئولة إذ إنه مهما كان عمق الخلافات السياسية بين قيادتي الدولتين، فإن الحرب الحدودية أو الشاملة لن تنهيها ولن تأتي بحلول لها، بل على العكس من ذلك فإن مثل هذه الحرب ستعمق هذه الخلافات وتعقدها أكثر مما هي عليه الآن.

فليس هناك من خيار أمام الدولتين الجارتين سوى الحفاظ على ما تبقى من علاقات مجتمعية وتداخل بين خيوط النسيج السوداني، فالحفاظ على هذا الإرث التاريخي الجيد وتعزيزه من شأنه أن يسهم في تهدئة المخاوف السياسية لدى هذا الطرف أو ذاك وفي الوقت نفسه يساعد على تذليل العقبات التي تعترض طريق إيجاد الحلول للخلافات التي ظلت عالقة من دون حل بعد تقسيم الدولة السودانية، فهناك مصالح اقتصادية واجتماعية متداخلة بين شعبي الدولتين، وبالتالي فإن تعزيز هذه المصالح وتقويتها سيخدم في نهاية المطاف الشعبين والدولتين معا، أما سلوك طريق تصفية الحسابات وحسم الخلافات عسكريا كما يحدث الآن، إنما هو عمل ليس له مردود إيجابي على الطرفين.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة