ألفُ ليلةٍ وليلة:
السيرةُ السحريةُ (١ـ٣)
 تاريخ النشر : الأربعاء ٩ مايو ٢٠١٢
عبدالله خليفة
تشكّلَ الوعي القصصي العربي في العصر الوسيط عبرَ بروزِ مادةِ العجائبية بشكلٍ واسع متضافرة مع مسرح كبير من المشهديات، المتسعة من مدينةٍ صغيرة حتى مدن كبرى عالمية، فغدت مركزاً واسعاً في هذا الوعي الذي تجسّد بأشكالٍ مختلفة في القص والشعر والدين وظل جوهرُهُ العام واحداً. وعموماً فإن الأدبَ القديم البشري يقوم على المدهش والمغامرات كجزءٍ أساسي من العلاقة مع السامعين والقراء والمؤمنين ومن روح الأزمنة القديمة.
وجدنا أن العجائبية هذه تظهرُ في القرآن بشكل واسع، عبر عجائبية المعجزات والأحداث وسير الرسل والقادة السابقين، مثلما هي موجودةٌ في الشعر والنثر الجاهليين، ثم زحفتْ على القصص المشكلة في المدينة العباسية في بغداد والقاهرة وغرناطة. وهي المدنُ التي تنامتْ من الصحراء ومن ثقافتها وانفتحت على ثقافات العالم.
العجائبيةُ تستندُ في الثقافة الإبداعية الإسلامية السائدة أولاً إلى كونِ الوجودِ بلا سببياتٍ وقوانين بل إلى سلطةٍ إلهيةٍ مطلقة عامة، فيما المظاهرُ الأخرى تمضي بأشكالٍ متعددة عادية وخارقة، ليس فيها تواتر وعللٍ عامة.
كما أن الوجود غير موحّدٍ في كائناته ذات الأشكال النوعية المتضادة كلياً حسب هذه الرؤية، حيث الإنس والجن، ككائناتٍ أرضية، فيما هناك الكائنات السماوية المنفصلة عنها. حين نقرأ الأدب اليوناني القديم سنجدهُ غارقاً في الأعاجيب والحوادث المذهلة كذلك وهذه طبيعة الوعي في الأزمنة الغابرة.
ومع غياب وحدة الوجود، وتنوع أشكال الحياة من مادية ونورانية ونارية، فإن التداخلات بينها ممكنة، والصراعات مستمرة، والتداخلات بينها تنتجُ الأعاجيبَ فيها.
وتنمو هذه الرؤية قصصاً حيوانياً عبر(كليلة ودمنة)، حيث تغدو العجائبية مدرسيةً، ومنطقية، وأمثولات والأمثولات لا توجد الدينامية الخارقة، فهي ذاتُ عالمٍ مستقرٍ، موحد، رتيب، في انفصاله الحاد عن البشر، فيقدم مواعظ وحكماً.
تسود الغابة، والزراعة في عالم (كليلة ودمنة)، وهذا ملمح لجذور غائرة، فيما تسود المدينة ألف ليلة وليلة.
في المسيرة إلى كليلة ودمنة كان العرب لا ينتجون إلا الأبنية القصصية الجزئية الوامضة، فالملاحمُ لم تكن من قدراتهم، لأنها قصصٌ كبرى، متشعبة، مترابطة، فيما هم ذوو قدرات قص جزئي، للمسامرة، وتعبرُ المسامراتُ والمجالس عن الترحال والضيافة والسوالف والحزاوي وقول الشعر والطرائف وعقلية التنوع والتجميعات، وهي العمليةُ التي بدأت منذ الخيام وتتوجت في الأندية وكتب الوراقين، وهي التي أخذت عدة قرون حتى حدث الاستقرار الأكبر في العراق والشام ومصر وغيرها.
فهيأت الأمثالُ وحكاياتُها وقصصُ الخرافةِ وتاريخُ العرب وما فيه من تحولات وملاحم، إلى القصص الواسعة ذات المحاور المتضافرة بعض التضافر الواهي الصلات غالباً.
مرحلةُ (ألف ليلة وليلة) والسير الشعبية مرحلة مختلفة، حيث تقومُ على القص المطول الواسع ذي الأبطال المركزيين والشخصيات الثانوية الكثيرة، ويربطها هيكلٌ عامٌ واحد عادة، يتيحُ للعناصر القصصيةِ المفككة بالترابطِ المحدود.
وبعثرةُ العناصرِ الفنية هي مثل بعثرة العناصر الاجتماعية في النظام وعدم قدرتها على تكوين طبقة متوسطة محولة، وهي مثل بعثرة قوى التفكير وعدم وجود منهجيات متماسكة حفرية في المادة.
تختلفُ(ألف ليلة وليلة)عن السير الشعبية، فالسيرُ ذاتُ تكوين عربي إسلامي تعكس سيرورة المجتمعات العربية البدوية، وهي تقوم على أبطال التاريخ العربي كما رأينا في قصة حمزة البهلوان أو (حمزة العربي) ومثل عنترة، وسيف بن ذي يزن، والأميرة ذات الهمة وغيرها.
بينما تعبر ألف ليلة وليلة عن مجتمع عربي إسلامي عالمي، وقد دُرستْ عربياً من خلال العناصر الفنية، أو من خلال الموضوعات الاجتماعية والتاريخية المبثوثة في الليالي.
أما عمليةُ التضفير بين القراءة الفنية وقراءة الجذور الاجتماعية فمنهجيةٌ نادرة.
تعبرُ بدايةُ حكاياتِ ألف ليلة عن التناقضِ البارز في هذا الكتاب، فالملكُ شهريار وأخوه اللذان يكتشفان خيانات زوجتيهما ويرحلان بحثاً عن خائنات أُخر ورجالٍ مخدوعين مثلهما يريان جنياً وقد حبسَ محظيته حبساً مخيفاً في علبة، ولكنها مع ذلك كانت تخونه ولديها خواتم كثيرة لأولئك العشاق!
تأتي شهرزاد لتمنعَ ذبح شهريار للنساء، وتقصلا عليه قصصاً ممتعةً تمنعهُ من تنفيذ حكم الإعدام فيها.
التناقضُ في هذا الجزء هو قيام شهرزاد بالروي المتتابع المتقطع، لكن الساردَ ليس هو المرأة شهرزاد، بل هو راو ذكر متخفٍ، أو هو مجموعةٌ من الرواة الذكور.
إن الجذرين الهندي أو الفارسي للرَاوية المفترضة شهرزاد وللملك شهريار يتم تنحيته، ليتكلم الراوي الذكرُ العربي المصري، ولهذا فإن ألف ليلة هي ذاتُ عدسةٍ ذكورية إسلامية محافظة في القسم العلوي منها، فيما خباياها غير محافظة مليئة بالحياة والرغبة في المتع والعشق.
وفيما تسلط ألفُ ليلة الرؤيةَ الذكورية على خيانة النساء كأفتتاحيةٍ كاذبة، تبعدُ ضميرَ المرأة عن الروي، وتجعلها في متن الحكايات كائن للمتعة الجنسية في شبابها، ثم تغدو(حيزبوناً) وعجوزاً تنصبّ عليها لعناتُ الراوي، فالمرأة ليست سوى مكان للشهوة فإذا فقدت ذلك تصبحُ من المخلفات! ولكن الليالي كذلك تظهر نساءً مقاومات يرفضن استغلالهن كما تفعل زوجةُ تاجرٍ مع أرباب الدولة(ص٩١، ج٣).
والشكل في النساء هو المذهل والحب يتدفق من الجمال الظاهري وغالباً ما يكون مروَّعاً ساحراً، مؤدياً لسلسلةٍ من الأحداث، وليس ثمة عشق حقيقي.
هذا هو التناقضُ الأول البارز في الحكايات، والجذر الأول الذي يدل على بقايا مجتمع أمومي، ويتمظهر في البطولة الساردة، فيما الوجه الثاني حيث يختفي الراوي الحقيقي وتبرز العلاقاتُ الذكورية المسيطرة. ففيما تنتصرُ شهرزادُ على شهريار في الرابط القصصي العام، تُهزمُ في متنِ الحكايات حيث النساء أدوات للشهوة أو مُبعدات كمخلفات.
هذا التناقضُ يشيرُ إلى عدمِ البنائيةِ الفنية الكلية بل على البنائية العفوية التلقائية التجميعية، التي شكلتْ محوراً هشاً وملأتهُ بمادةٍ هائلة متنوعة متضادة مختلفة.
الأمثولة هنا هي دور القصص في تحضير المَلك المتوحش وأنسنته، عبر القص العجائبي، وسيرورةُ القصص مرتبطة بعجائبيتها وبغاياتها، وبمدى قدرتها على تقديم المدهش، الذي يتدفق وتظهر روابطُهُ السردية المتنامية من دون علاقات قانونية وسببية هيكلية، فيتدفق السردُ في المكان والزمان، في البر والبحر، في المدن وخارجها، يصورُ الجنَ والبشرَ والحيوان وتداخلاتها عبر الحكايات والتحولات والتناسخ بينها
.
مقالات أخرى...
- ميلاد سياسي فوضوي لشعوب عربية - (8 مايو 2012)
- قضية حق أُريدَ بها باطلٌ - (7 مايو 2012)
- مَن يخدمُ الاستعمار؟ - (6 مايو 2012)
- حمزةُ البهلوان وصراعُ العربِ والفرس - (5 مايو 2012)
- ضد الفاشية وليس ضد الإسلام - (4 مايو 2012)
- الثورة السورية والخذلانُ العربي والدولي - (3 مايو 2012)
- المشروعُ الإيراني ينخرُ شعبَنا البحريني - (2 مايو 2012)
- تطورُ الديمقراطيةِ مرهونٌ بهزيمةِ ولايةِ الفقيه - (1 مايو 2012)
- الصراعُ غيرُ الخلاق - (30 أبريل 2012)