الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤٧٠ - الاثنين ١٤ مايو ٢٠١٢ م، الموافق ٢٣ جمادى الآخرة ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

شرق و غرب


أمريكا تسرق الأدمغة العلمية





بقلم: رالف نادر

كانت عبارة «نزيف الأدمغة» تعني - في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين الماضي - هجرة الخبرات والكفاءات العلمية المتطورة والمدربة من البلدان التي تحكمها الأنظمة الدكتاتورية بحثا عن فرص العمل المجزية في الولايات المتحدة الأمريكية وبقية الدول الغربية الأخرى.

أما اليوم فإن عبارة «هجرة الأدمغة» تستخدم في وسائل الإعلام للدلالة على السياسة النشطة التي تعتمدها الولايات المتحدة الأمريكية من أجل استقطاب رجال الأعمال والعلماء والفيزيائيين والممرضات والأيدي العاملة الماهرة بصفة عامة من أجل سد النقص الكبير الذي تعانيه الولايات المتحدة الأمريكية.

هذه «الهجمة» الرامية إلى تجريد الدول النامية من كفاءاتها العلمية تقف وراءها عدة شركات مثل «إنتل» و«غوغل» و«مايكروسوفت» و«بفيزر» كما أنها مدعومة من إعلاميين معروفين مثل توماس فريدمان من صحيفة نيويورك تايمز وبعض أعضاء الكونجرس الأمريكي من أمثال جيري موارون (جمهوري من ولاية تكساس) والسيناتور الديمقراطي مارك وورنر.

إن ما يساق من كلام لتبرير هذه السرقة الموصوفة للكفاءات العلمية والتقنية من البلدان النامية لا ينطلي على أي أحد، فدعاة هذه «الهجمة» يقولون ان الشركات في حاجة إلى الكفاءات وان الأجانب يمتلكون هذه الكفاءات ونحن في حاجة إلى هذه الكفاءات حتى نعزز مسيرة نمونا وازدهارنا ونوفر فرص العمل.. إلخ..إلخ. لا يهم ما إذا كان الأمريكيون يصطفون في قوائم الانتظار ويتطلعون إلى الحصول على الفرص نفسها في العمل. ان الشركات الموجودة في سيليكون فالي تحقق أرباحا هائلة وتدفع ضرائب قليلة وهي تحصل فوق ذلك كله على الدعم المتعدد الأشكال.

اننا نقف اليوم على التناقضات الصارخة، فنحن نملك وكالة للتنمية الدولية تعرف اختصارا باسم ةءسص علما أن الاقتصاديين والسياسيين يقولون ان الدول النامية في حاجة أكيدة إلى مثل هذه الكفاءات والمهارات، أي من يسمون «رأس المال البشري». إن الدول النامية في حاجة إلى المهندسين من أجل تطوير شبكات النقل والبنى التحتية والشبكات المائية والكهربائية كما أنها في حاجة إلى علماء الفيزياء للتدريس في جامعاتها وتطوير صناعاتها الوطنية. إن الدول النامية في حاجة أيضا إلى الأطباء لعلاج المرضى والمصابين بقدر حاجتها للمرضين من أجل تطوير كفاءة خدماتها الصحية والتمريضية، إضافة إلى الحاجة إلى خبراء ومختصين لاجتثاث الأمراض والأوبئة، فضلا عن رجال الأعمال القادرين على إطلاق شتى المشاريع التي تلبي متطلبات الحياة الأساسية.

لقد ظل توماس فريدمان يطوف مختلف دول العالم ويحث الدول النامية على الحفاظ على مثل هذه الكفاءات الوطنية من أجل بناء اقتصادها. لكن توماس فريدمان ظل يلعب دورا هداما من خلال المقالات والأعمدة التي يكتبها والتي يدعو فيها سلطات البيت الابيض إلى منح الطلاب الأجانب الحاصلين على شهادة الدكتوراه في العلوم فورا الإقامة الدائمة في الولايات المتحدة الأمريكية تمهيدا لمنحهم الجنسية الأمريكية.

لا يمكن لتوماس فريدمان أن يدعو إلى الشيء ونقيضه، فلا يوجد في أي دولة في العالم فائض من هذه الكفاءات العلمية التي ننهبها من الدول النامية والتي نحرمها بشتى الاغراءات عن المساهمة الفعالة في بناء بلدانها ومجتمعاتها.

تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية من أكبر الدول «المستوردة» للأطباء والممرضين والممرضات من بلدان جنوب آسيا ودول الشرق الأوسط وبقية مناطق العالم الأخرى. إن هناك دولا نامية في أمس الحاجة إلى هذه الكفاءات العلمية أكثر من حاجة الولايات المتحدة الأمريكية إليها، وخاصة أن هناك أعدادا كبيرة من الكفاءات العلمية التي لم تجد من يطورها في داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها جراء ما تعانيه من تجاهل.

ماذا لو نجحت سياسات استقطاب الأدمغة العلمية في إبعاد البروفيسور محمد يونس، الحائز جائزة نوبل للسلام عن بلده الأصلي بنغلاديش والإتيان به إلى وول ستريت بنيويورك؟

هل كانت بنغلاديش ستجد من يطلق آلية القروض الصغيرة التي تنتشر اليوم في مختلف دول العالم وخاصة منها البلدان الفقيرة والنامية؟ ماذا لو أن الشباب البرازيليين المتفوقين علميا قد هاجروا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، هل كانت بلادهم ستحقق كل هذه الطفرة الاقتصادية الكبيرة؟ ماذا لو جاءت سياسات «استقطاب الأدمغة العلمية» بالشاب حسن فتحي إلى الولايات المتحدة الأمريكية؟ هل كان هذا العبقري الفذ ؟ الذي يلقب بـ «مهندس الشعب» ؟ سيلقى الفرصة كي يعلم المزارعين المصريين الفقراء كيفية بناء منازل صغيرة وأنيقة باستخدام التراب الذي يمشون عليه؟

إن أولئك المسؤولين الذين يتبوأون مناصبهم في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة DIASU وفي مختلف الجامعات الأمريكية الشهيرة لم يبدعوا فكرة هذه المنازل - المصرية الصنع - كما فاتهم أن يحققوا الكثير من الانجازات الأخرى التي حققها المبدعون في بلدانهم النامية.

إن الشركات المنتصبة في «سيليكون فالي» تضغط على أعضاء الكونجرس الأمريكي كي يوافقوا على الزيادة على إصدار التأشيرات من فئة B-١H علما أن سلطات الهجرة الأمريكية تصدر سنويا أكثر من ٦٥ الف تأشيرة من هذا النوع وهي تخصص لاستقطاب الكفاءات في مختلف التخصصات في مجال تقنية المعلومات للعمل في سيليكون فالي في الولايات المتحدة الأمريكية.

في موضوع صحفي نشر مؤخرا اعتبر جيرالد سيب، الصحفي في جريدة «الوولد ستريت جورنال» أنه إذا لم تتم الموافقة على إصدار المزيد من هذه التأشيرات فإن هؤلاء «الشبان الذين يأتون من جنوب آسيا ودول الشرق الأوسط والعالم العربي» لدراسة الرياضيات والعلوم والهندسة سيعودون إلى بلدانهم ويؤسسون شركات حديثة في مجال تقنية المعلومات هناك.

حقا؟ وما العيب في ذلك؟ ألا يحق لهم العودة إلى أوطانهم والمساهمة في بناء بلدانهم وتنمية مجتمعاتهم؟

تظهر الأرقام الإحصائية أن نسبة كبيرة من درجات الدكتوراه في العلوم تمنح من الجامعات الأمريكية للطلاب الأجانب. إذا ما ضمنت وظائف لهؤلاء الطلاب في الولايات المتحدة الأمريكية فإن ذلك من شأنه أن يزيد من معاناة بلدانهم النامية.

اننا نعيش اليوم في مجتمع امريكي لا يأبه كثيرا لأوضاع مجتمعات في بلدان العالم الاخرى التي تعيش دون مستوى العيش الذي نتمتع به هنا في الولايات المتحدة الأمريكية.

على سبيل المثال لا الحصر عندما يلتحق طلاب العلوم الأفارقة المتميزون بالمؤسسات الأمريكية بحثا عن الرواتب المجزية فيجب ألا نستغرب بعد ذلك عدم توافر المختبرات العلمية المختصة والمؤهلة لمكافحة الأمراض المعدية والأوبئة في بلدان جنوبي الصحراء مثل مرض نقص المناعة المكتسبة - الإيدز - والملاريا والسل. هذا الكلام نفسه ينطبق أيضا على بقية الدول الأخرى الفقيرة التي نسلبها من أدمغتها وكفاءاتها العلمية على مدى عقود من الزمن حتى نصنع الثروة ونحقق النمو والتقدم هنا في الولايات المتحدة الأمريكية، في الوقت نفسه الذي يعاني فيه عشرات الملايين من الأمريكيين الفقر والبؤس والتهميش. إنه لمنتهى العبث هذا الذي تفعله الولايات المتحدة الأمريكية التي كان يفترض بها أن تساعد مجتمعات الدول النامية على تطوير برامجها التعليمية والنهوض بصناعة المعرفة من أجل مستقبل أفضل غير أنها تفعل ما هو أسوأ من كل ذلك، إنها تسرق هذه الدول النامية من نخبها العلمية والفكرية.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة