الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤٧٥ - السبت ١٩ مايو ٢٠١٢ م، الموافق ٢٨ جمادى الآخرة ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

الثقافي

الأرضُ تحت الأنقاضِ

مشاهدٌ روائيةٌ من غزو (١٧)





الأستاذ قيسُ المثقف الكويتي المنظرُ للوحدة العربية يخرج من بين الأنقاض ليجد بلده محتلا، والفوضى في كل مكان، والتعذيب شاملا، وهو يعود ليحلل ذاته ومبادئه، ويقرأها ويجسدها في مشاهد ويدخل معه عبدالرحمن المختار المناضل والضابط العراقي المزدوج يدخل معه في علاقات نارية.

٢٧

في هذا الليل الجميل ومفرقعات أولى من الشتاء القادم تهب بغتة ثم تغور في فحيح الصيف القتيل، والبحر يطلق أوجاعه ولهيبه المخزون، والسحب مزق من البياض العابر الهارب في أوجاع السماء. ليس ثمة لديه سوى الصحراء والجري وراء الغيم. يتأمل قيسٌ ابنَهُ الجاثم على المقعد فيذهل من هذه اللحية الكثة التي نبتت فجأة، وهذه الملابس القصيرة التي تخافُ برعب من التراب وماء الكولونيا في دورة المياه.

ذهبَ لباريس معانداً إياه ليدرس الأدب والمسرح وكل هذه المفرقعات اللفظية، والآن في بضعة أشهر يتدروش.

أأعطاه عبدالرحمن إجازة في بيته لكي يجن؟

لم يذهب بابنه إلى المسجد مرة، كان مؤمناً بشكل ما، ولكن كان الشكل غامضاً، يصلي إذا اضطرته الظروف، عندما يزنق مع وفد أو حين يكون في زيارة مع علية القوم أو في جنازة رجل مهيب، أشياء لتمشية الحدث المستعجل ولعدم الظهور بشكلٍ منفر ومختلف. ولكن هو في متاهة، في فسيفساء محطمة، في زوبعة من الحديد الملتهب، لم تبق لديه قيمة فكرية ما. كان ابنه معه دائماً، يلبس البِذَل مثله، يضع ربطة العنق الزاهية، يتلذذ بالنبيذ، يستعيدُ مجدَ الأمة من دون صراخه، لم يسأله مرة عن الغيب. والآن ها هو يتغير من دون أن يقول له، يفلتُ منه، يلغيه، يتجاوزه، يتشكل بصورةٍ مخيفة، لحيةٌ ووسوسةٌ وهينمة، فأين الضحكات الصاخبة والوجه المفتوح للصبايا؟ أيتغير بهذه السرعة الغريبة في هذا الاختطاف؟ ما هو هذا الإيمان؟ ما هو هذا السحر؟ أيكون مفيداً له؟ لابد أن يقترب منه بدلاً من ضياعه، ربما أسسا خليةً.

مريم تسقطُ رأسَها النارية قرب كتفه.

فاتن المحطمة تحدق فيه، تقول بضع كلمات عن العائلة المزعجة التي احتلت الطابق السفلي من البيت، تقترح على أخيها أن يستلف موسى للحلاقة، تكاد أن تلمس أصابعه المقطوعة، تذكره بالأنقاض والظلمات والفقد والرعب والأسلحة وخطب الزعيم وأعلامه وجرائمه حتى تشتعل جمجمته، وتذكره بخيبة الجيران به وانشدادهم به الآن، كلامها متوتر مهيج، لكن كيف أمكن لابنه أن يتحول، ولماذا صار يكررُ آيات الجهاد أمامه؟ يقول:

- لم نعد منهم يا أبي، كل هذا ضلال.

ثم يصيحُ بشكل غريب:

- أنت أبعدتني عن أصلي، ألقيتني في الهواء. ماذا تقبض الآن سوى رمل؟

- علينا أن نقبضَ على هذا الرمل حتى لا نخسر كل شيء.

لديه أجوبة كثيرة الآن، لم يعد تائهاً، يريد من يقف معه في خندق لا أن يجلده، يريد من يذكره بركضه من أجل وطن لا من أجل صنم، أو يعيدُ شبابَه ليبدأ من جديد، ليس كل تاريخه خطأ بالتأكيد، لو أنه بدأ من هناك مع أبيه، لو أنه لم يخطف طائرةً في سماء الكلام، لو ظل هناك مع الكهول يبحثُ عن خيوط البحر والسفر والصحف والأكواخ لغدت لديه خلايا كثيرة للمقاومة الآن، لكنه كتب كثيراً من البرق، ودفعَ تلك العربة التي وقف عليها الزعيم، فداس الناسَ، كم جثة الآن تطالعهُ، كم بيتاً هدم، كم عرضاً انتهك، كم قافلة من المواطنين والأغراب تاهت وماتت في الصحراء.

فليطالع دجلةَ المملوء بالجثث التي كانت تتدفق منذ فجر التاريخ وتأتي إلى فيلكا وهو يصطادُ السمكَ المليءَ بأصابعها فيشويها بعظام ونار الضحايا.

زوجته تمسك يده وقلبه، يريد أن يأخذ هذه اليد ليهرب في الصحراء، احتمل هذا الجسد المترهل حبسة البيت وضجيج الكلام والآن يرفعُ الأعلام الغضبة، وبدت دائماً نائية عنه، وتمشي وراءه. كيف احتملتْ التعذيب؟ النار قد تحرقهم ثانية، يستطيع أن يتقدم إلى شاشة التلفزيون ليتحدث: أيها المواطنون الأعزاء يشرفني أن أتحدث باسمكم جميعاً، وأرحب باخوتنا الذين حررونا، وألغوا الأشواك الحديدية التي أقامها الغرباء، فغدونا أرضاً واحدة، إننا الآن جزء لا يتجزأ. كما قلت للزعيم كثيراً، وكما رجوته عبر السنين، أمتنا الآن تنهض وتتدفق من كل العواصم وتصرخ لنا، وتقيم المظاهرات الوحدوية العظيمة، وغداً تنهمر الآلات الحديدية في كل مكان. إنهم يريدون اغتصاب ابنتي وأنا لا أستطيع أن أقاوم، ولدي عاد للصحراء بعد كل الدخان الذي حرقه بغلايين ودم فيكتور هيجو، سأتحدثُ بما يريدون، لم تعد لدي قدرة. أيها المواطنون إنني أتحدث باسمكم جميعاً.

آه أي عار هذا؟!

في الليل العميق حين يكون وحده، كانت الجثث تتدفق منذ فجر التاريخ، وكان هو يرى تاج حمورابي اللامع، ولا يسمع جري خيوله فوق الجلد البشري، ليس له إلا أن يغدو مثل ابنه، لم تدخل الصلاة أبداً بعمق في قلبه، لو أنه يمسح ذاكرته تماماً، لو يبقى كما كان بين الأنقاض بدلاً من أن يلملم شظايا ذاته بكل زجاجها الحارق، يطالعُ الفضاءَ بكل اتساعه والنجوم والفراغ الكبير للروح، والعذاب المنتظر، ولا يجد بريقاً، وليس ثمة صدى للنور، والخيول هي ذاتها تسفح الدم، والأكواخ ذاتها هي التي تدفع الروح، والخريطة الترابية تجدد قيحها ومزاميرها.

يسمع ابنه ينشره:

- يا أبي لقد انتهى طريقكم.

طالع الفراغ برعب.

فزع فاتن ودهشتها تفجرا في جملةٍ صارخة:

- يا لوقاحتك!

والأم مبهورة:

- ألا تخجل قليلاً؟

ولؤي ينهض بحدة:

- لن أخاف من أحد بعد اليوم، ما بالكم تجاملونه؟ هذه هي الصور والأعلام التي كنا نوزعها على الأحياء والنوادي والمقابر، نحن الآن نختبىء خوفاً من الجيران يا أبي.

شعر قيس بمرارة كبيرة.

- أنا الآن بينكم.. ربما لحظة.. دعونا.. نلتئم ونتحد.

سكتَ كأنه تمثال انكسر نصفين ومشى ضياؤه إليهم.

- أعظمُ دعوةٍ لوحدةٍ أقدمها الآن هي وحدتنا، وحدة المقاومين.

ليس الدين هروبا إذا امتلأ بالأسئلة والنار. هو زعيمٌ آخر الآن لديه مشروعات أخرى جديدة عظيمة.

أقدامهُ كثيرةٌ مع الرجال والشباب والنساء تدوسُ تمثال نمرود.

لن ينفع الصراخ البراني في تحويل شيء، في طرد الغزاة لكن اللحية قد تكون تمويهاً والثياب تخفي مسدساً.

كل شيء الآن مفيد إذا كان في سبيل تحرر الوطن، لكن يجب ألا يظهر زعيمٌ آخر قادم من أزقة الإجرام.

يلاحظ في ابنه هذا التوتر والارتباك والقلق، ويكتشف في الحطام جسداً يطفو فوق الماء، ورايةً غارقة، وحقيبةَ تاجرِ فارغة، ومفكر مفلس، فيفكر فجأة بشكل غريب: قد يكون هذا الغزو طريقاً لظهور شعب جديد متحد مثل الصوان؟ ويسمع ابنه يقول وهو قريب من البكاء:

- أريد أن أراك حراً يا أبي.

٢٨

يتقدم عبدالرحمن إلى سلمى قائلاً:

- لا أستطيع أن أقول إلا أنني أحبك.

تتطلعُ إليه ساخرة:

- أنت أيها الجلاد والسفاح، هل تحب حقا؟

- نعم.

أخذها إلى سيارته العسكرية، وانطلق بين الشوارع الملغومة بالبشر الصامتين، والسيارات العسكرية المعطوبة، والسيارات التي سُرقت عجلاتُها فترنحتْ بحديدها على الأرصفة، بين الجمعيات الفارغة والشاحنات العسكرية المشحونة برثاثِ الريف وعظامه البشرية، وهي مذهولةٌ يقودها في الدخان والضجيج والصمت والهمس، ويدخلها بين صفوفِ العساكر المحدقة بشهوةٍ إلى وجهها، وجوه حديديةٌ بأنوفٍ ضخمة ورقاب ممتلئة باللحم وظلال الضحايا، ومكاتب مكفهرة، وغرفٌ تتفجرُ منها الصيحات، ويَغلقُ عليها في غرفةٍ صغيرة معه، ولاتزال بقعُ الدم لم تمسح من الطاولة الحديدية الصدئة، ويخيل إليها ان ثمة رجالاً في العتمة، والسماعات تنقل أي نأمة إلى ما وراء الجدران، وعبدالرحمن يمزقُ ملابسَها، ويطعنُ يدَهُ ويملؤها بدمه، ويضعها بحنان قوي على الطاولة، ويمسح شعرها برفق وهو يصرخ مغتصباً الوهم، وهي مذهولة لأنه لا يخدشها، ويتطلع إلى عينيها بشغف، فتهذي انه مجنون، وان وجهه رجولي وله ظلال من وسامة غائرة، ويمضي في صراخه، وتخشى أن يغوص بأظفاره في لحمها، وأن يتدفق دمها مثل دمه، هذا ما حلم به سالم عمران طويلاً ربما، ويضغط عليها فتصرخ، ويشدها إليه، وتجد ان جسمه ساكن ووديع، فتتأوه حالمة، وراغبة في ضمة عميقة، حقيقية، وتجد انها تقبلُ شفتيه، وهو يتطلع إليها بذهول، ويضع رأسه على صدرها المفتوح، ويفتعل صراخا بدا غبيا وغريبا، والنهران ينحدران من الجبال الشاهقة البعيدة، يتساقطان ألماً، ويعبران الفيافي، ويجتازان ممالك الدم والرعب، وقبائلَ الغنائم والغنم، في اتحاد دجلة بدراكولا المنبعث عربيا، تشعرُ بهدوءِ هذا الجسد الرجولي العارم، بسَكينة الحيوان، ودفءِ الإنسان، وتتمنى أن تطول لحظة الاغتصاب الوديعة بين أشداق الحوت المنطلق في اللجج، وتأتي صرخاتٌ مروعة من الخارج، تتفجر أصواتُ اخوتها غاضبين بعد حرق المخيمات وكسر حصالات الأطفال.

- سأذكركِ طويلاً، نحن الذين أحببنا بعضنا بالاغتصابِ الزائف وفي الغزو الوحشي، يحضنك جلادٌ ويقبل جبينك إنسانٌ طلع من مذابح الأشقاء ومستنقعاتِ الدم والزيت، ومن حرائق القمصان السود.

كأنها تشعر بالرغبة فيه، وتنأى كارهة الدم الحقيقي الذي بللها به، وهو ينحني ويمشي في غار طويل، محدقاً في الساعات الخفية، والصراصير الوفيرة، سامحاً للفئران بالنط على قدميه.

تضمه بحنو لم يعرفه منذ أن وضع حراشفَ الأفاعي على روحه، وهو الآن يَدخلُ في زقاقهِ الأول، يسمعُ هديرَ بغداد حين كانت صبية تشتري الخبزَ وتصنعُ الكعكَ والحب، حتى جاءت السكاكينُ وقطعتْ كرزَها غير الناضج في عمق ثدييها، ووُضعت بذلةٌ ملأى بمسامير النجوم فوق عينيها، والآن هي جثة تسبح في النهرين تعطي طميها للجذور.

قال:

- دعينا نستمتع بهذه الومضة بين مذبحتين.

- لولا هذه الجدران التي تفح بالموت لم نبق لحظة.

- أمامي بحر عليّ أن أخوضه، ولن تريني أبداً مرة أخرى.

تضمه بحرقة:

- دعنا نفلت، دعنا نهرب إلى الصحراء كهذه الحشود.

- ستخرجين من هنا لتري شخصاً عزيزاً عليك.

اجتمعتْ فيها فرحةٌ وألم وحزن، وأحسّتْ بأن ضمتها العميقة منطفئة كهذا الحب الوامض، وأخذت تقبله، وذهلت بأن يأتيها الحب في غسالة موتى، وممر جثث وفئران، وأن تستثير هذا الرجل الغريب ليدع بصمات جسده في أعماقها، ولتبحث عن عروقه، وليطاردها شبحهُ في كل أوان، ولترى كلَ الرجال المجرمين الذين قتلهم، والمسالخ التي اجتازها، والأرض تزهر من بعده، والموتى ينهضون، يصيحُ في خريطةِ طميها، في إشراقةِ النور المتظاهرة في وجهها:

- حينما يأتي طفلي لا تقطعيه عن روحي.

- من الرجل العزيز الذي سوف ألتقيه؟

- أبوك سينتظرك، وسيطاردك اخوتك وعشاقك فأطلقي عليهم النار ولا تترددي.

(يتبع)



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة