الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤٧٥ - السبت ١٩ مايو ٢٠١٢ م، الموافق ٢٨ جمادى الآخرة ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

الثقافي


المكانُ المَعذور





حالما انتشرت الروحُ تقدسَ فورا الجسد واحتوى القبسَ الإلهيَّ المُعظم فأنارَ كالمسجدِ الأبيض والكنيسِ الأول وأبصر.

تدفقت الدماءُ دافئةً من معصمها وابتلَّ وجهها الضامر فأصبحَ شاحبا وأصبح الجو ثقيلا حتى تخلت عنها روحُها إلى حيث قدَّرَ اللهُ لها وأصبح جسدُها فارغا ترابيا ضئيلا، فبعد صراعٍ مُتعب قررت أن ترحل بطريقةٍ ملتفة وملتوية، واعتزمت أن تُجهضَ جسدَها الفتيّ غير متدبرة عواقب فعلها بل متحديةً مشيئة المتصرف بأمرها، وبعد عامين من الإصرار سقطَ الجسد واسودتِ الزوايا وانسدت النوافذُ حولها وبالأسفل ضمَّها التراب وأحكمَ في ضمته حتى بلغَ به الأمر أن يبلغَ كفيه تطابقا، وجدت نفسها محاطة بالسواد بكماء صماء عمياء والأوجاع تمزقها إربا، أشار الظنُ عليها وحسِبَت أن الروح لا ترى وأن عالمَ الأمواتِ مظلمٌ كالعدم، ثم رأت نورا يقبلُ من بعيد مثل زنبقةِ ماءٍ تنصاعُ للطائف النسيم يتردد معها صوتٌ مخيف يردد اسمها مناديا فجر بنت مريم، فأجابته وهي ترتعد كأن أحدا غيرَها يجيب، أنا على دينِ محمد علمني كيف الحياة فردت عليها بقسوة أنت تحديت سنة الحياة فلم تقبلي بما اختاره لك القديرُ الأعلى، ثم تطابقت بسرعة كفا الترابِ مجددا بكراهيةٍ وانتقامٍ شديدين وأخذ السواد يعتصر نفسه مانحا إياها مزيدا من طبقات السواد يعنفُ بنفسها المحطمة خزيا وندانتشرت الممراتُ الدائرية أينما نظرت مُغلفةً بغلافِ المكان المعذور ساترا مع ما يستر الأرواح والأنفس، وعند أفواه تلك الكهوف انشغلت ملائكةُ السؤالِ بطرح الأسئلة الكاوية وتمحيص الإجابة ورفض كل المسوِّغات فتمنت لو أنها لم تكن إلا ترابا ينجو من العقاب، وظنت طوال حياتها مذ كانت طفلة أنها الوحيدة التي تمتلك الحق في التصرف بنفسها فتقتلها أو تجبرها على المكاره، فالأمر عندها هين، ولكنه بات عسيرا قاسيا وغير محتمل لولا صنيعٌ قديم أسدته لإحداهن تغلغل بقوّة عند حافة الضوء الذي شق في بطن الظلام شقا طويلا ضيقا بسبب نكران هذه الأخرى لعطائها وفي مقتبل عمرها، بل استعاضت عن الإنكار العاديّ بالعداء والتسلّط فكانت تلك المعاناة سبب نجاتها تحديدا بفضل ذلك العمل الذي تأوَّل ليصبحَ هائلا فغفر الله لها، وأسمعها صوتا يقول أمام نيرانٍ وألسنة لهب (أستغفر الله العظيم من كل ذنبٍ عظيم)، فطفقت تردد ما قال في عجلةٍ ورعدة فانفك من شقِّ الضوءِ بابٌ أفقي انطلقت منه أشعة جامحة وانطلقت سريعا إليها فجر كالطائر السحري المتحرر ورأت في الفراغات أنوارا وأرواحا كالدخان، ففي الأجواء ما لا نرى نحن البشر وكان العمى يخالطُ البصر، والأمرُ شبيهٌ بورقةٍ ضمَّت سطرا يوازيه سطرٌ ثانٍ من الجهة الأخرى نراهُ ولكن متى تنقلبُ الص

ماجت فوق الأسماع الدنيوية لا يراها بشر وشفَّتِ الضوءَ مستوعبةً سرعةً كبرى، ثم حين دُعيت إلى السماء وتصاعدت إلى الأعلى أرواحٌ في رحلة جماعيةٍ كبيرة؛ سلكت تلك الوسائل للوصول إلى هناك منهمكةً في التحديق المستمرّ والتحليقِ إلى الأعلى حتى اضطرها إرهاقٌ وتعب إلى أن تعودَ لوعيها، فتوقفت بعد وقت وتحوَّل سقفَ السماء إلى مربعٍ أبيض ملأه وجهُ شقيقتها المفجوع، فاستقرّت عيناها في عينيها ثم خرجت بعد برهةٍ منهما إلى المربع وتحركت على برودتها أطرافُ الجس

غمزت الشمسُ أصابعَها وطرقت جفنيها بأصابعَ ذهبيةٍ وأساورَ من سحاب فشرّعتِ الأبوابَ لها مُثمنةً قيمةَ الحياة، وأرهقت في سبيل الغفرانِ دموعا تحت الضوءِ المُبعثر تحت رأسِ شقيقتها وهي ترسو عند مرافئِ الظلال، تحت تلك الشجرة التي تنمو حباتُ الحياة عليها مُزدانةً بالحليّ والفواكه وأرطالٍ من الملح الصافي يذوب فور تساقط الأمطار، فتبعَثُ الحياةُ فكرةً ضوئية تزيِّنُ السماء

* كاتبة يمنية



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة