من الحمار إلى الطائرة
 تاريخ النشر : الجمعة ٢٢ يونيو ٢٠١٢
جعفر عباس
قضيت بضعة أشهر وأنا أدندن وأغني ليل نهار فرحا بابتعاثي الى لندن للدراسة، لم أكن فرحا بسبب الدراسة، بل لأنني «ذاهب الى لندن»، التي لم يكن يزورها سوى العرب الأثرياء جدا وكبار المسؤولين الحكوميين، وزوّدتني وزارة الإعلام بخطاب إلى وزارة المالية للحصول على إذن شراء تذاكر السفر بـ.. ماذا؟ الطائرة!! أي والله العظيم تقرر سفرنا بالطائرة.. ما أكرمك يا ربي.. ترقيات وطفرات اجتماعية متوالية، كان الذهاب الى المدرسة الأولية (الابتدائية) على ظهر حمار، قفزة برجوازية لم تتسن لمعظم زملائي في المدرسة.. صحيح كان حمارا بن حمار بن أتان، ويمشي خطوة الى الأمام وخطوتين الى الوراء، ولكن المهم في الموضوع أنني توقفت عن الذهاب الى المدرسة سيرا على الأقدام، وفي المرحلة المتوسطة تسنى لي كثيرا الانتقال باللوري (الشاحنة) كلما كانت الميزانية تسمح بذلك، فقد كانت مدرستي المتوسطة في البرقيق على الضفة الشرقية من النيل، وكان يتعين علينا العبور بالمركب «الموناب» شرقا نسير على أرجلنا مسافة يجوز فيها قصر الصلاة لنصل الى المدرسة، حاملين على رؤوسنا شنطا مصنوعة من معدن خفيف مطلي بالصفيح وممتلئة بالتمر والقرقوش (وهو نوع من البسكويت البلدي خشن الملمس وسميك وله طعم يجنن مع الشاي).. ويسمى المركب «موناب» إذا كان بلا شراع، والكلمة نوبية تطلق أصلا على المعزة التي لا قرون لها.. وبالانتقال الى المرحلة الثانوية بدأ عصر الرفاهية، فقد كانوا ينقلوننا من مواقع مختلفة من مدن عاصمتنا الثلاث الى مدرسة وادي سيدنا على ظهر القندران (كده كده يا التريللا قاطرها قندرانو) وهو الشاحنة التي تستخدم لنقل الأشياء الثقيلة، وفي عطلات نهاية الأسبوع والإجازات كنا نستخدم حافلات المرسيدس التابعة لمحافظة الخرطوم للانتقال بين المدن الثلاث، بل كنا أحيانا نشطح وننطح وندفع ما بين قرشين ونصف القرش وخمسة قروش لركوب التاكسي، (وعنّه محدش حوّش)، وكانت وزارة التربية تزودنا بتذاكر سفر مجانية بالقطارات من وإلى بلداتنا مرتين في السنة، وأخيرا هأنذا على وشك ركوب الطائرة.. وكنا في بلدتنا في شمال السودان النوبي نصيح كلما رأينا جسما صغيرا يحلق فوقنا في السماء نصيح: وو تيارا أيقا جني ويكا أركودي.. يا طيارة ارمي لي بجنيه واحد.. فقد كان هناك اعتقاد بأن الطائرة تحمل في جوفها آلاف الجنيهات (لم تكن كلمة «مليون» قد وصلت إلينا)، وأن بها أثرياء يرمون للمساكين الجنيهات عبر نوافذها.. وما من طفل في المنطقة النوبية رأى طائرة إلا وغنّى لها: تيارا جولق داري وو فاتنه أبدو.. تيارا أسكرين قتا وو فاتنه أبدو .. الطيارة تسير في الجو يا فاطمة عبده.. الطيارة تفوح برائحة العساكر يا فاطمة عبده (وفي بعض المناطق كانوا يستبدلون ثريا بفاطمة)، وكان سرّ الربط بين رائحة العسكر والطائرات، هو أن أول طائرات دخلت المجال الجوي السوداني كانت حربية تقلّ الجنود البريطانيين والهنود ليحاربوا الطليان في ارتريا وشرق السودان خلال الحرب العالمية الثانية.
وعندما علمت أنني سأسافر الى لندن بالطائرة قررت أن أكون جعفر الطائي بأن أرمي بجنيه عبر نافذتها فور التحليق في أجواء بدين، مع كتابة اسمي على الجنيه كي يعرف أهلي أنني صرت في العلالي، مثل الرؤساء ووزراء الخارجية، ويعدلوا أغنيتهم: تيارا جافرن قتا وو فاتنه أبدو (جافر هو جعفر الذي يفوح عطره من الطائرة).
jafabbas١٩@gmail.com
.
مقالات أخرى...
- كانت لنا إنجازات رائدة - (21 يونيو 2012)
- وصية أمّي تناقض وصايا الأصدقاء - (20 يونيو 2012)
- رحل الاستعمار.. وواصلنا مبايعته - (19 يونيو 2012)
- رحلة لندن ثبتت رسميا - (18 يونيو 2012)
- إلى بريطانيا على حساب ألمانيا - (17 يونيو 2012)
- لماذا العربيقي - (16 يوليو 2012)
- تشارلس كان على حق - (15 يونيو 2012)
- المملوحة صارت ممسوحة - (14 يونيو 2012)
- بلا رياضة بلا دوشة (٢) - (13 يونيو 2012)