الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٤٤ - الاثنين ٩ يناير ٢٠١٢ م، الموافق ١٥ صفر ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


التياراتُ الدينيةُ والرأسمالية(٢-٢)





ترثُ التياراتُ الدينية السياسية تركةً اقتصادية اجتماعية ثقافية ثقيلة، مخرومةً من كل جهاتها.

أولى الظاهرات السلبية هي وعي هذه التيارات الدينية السياسية نفسه، وهو الذي تكوّنَ من دون درسِ جذورِ التاريخ الإسلامي، وبالتالي عدم قدرتها على فرز توجهها السياسي الاجتماعي، وفهمها ذاتها كقوى رأسمالية ذات جذور دينية ما قبل رأسمالية.

فقد تكونت تعبيراً عن فئات وسطى دخلت عصراً من المحافظة وتأييد العبودية وعدم فهم دور الفائدة المالية كمحرك للاقتصاد، وعدم اعتبار النساء كقوى انتاجية مهمة في قوى الإنتاج العامة، وعدم فهم دور العلوم والفلسفة وعلاقاتها بالتصنيع.

هذا ينعكس على دورها السياسي وتوجهاتها في ظل تكونها كرساميل غير إنتاجية. فسيطرةُ الأقسام المالية والعقارية والمصالح التي تكونت في ظل الرأسماليات الحكومية الفاسدة، تنحو بالكثير من توجهاتها إلى عدم تغيير البُنى العربية المتخلفة الذكورية الغيبية السحرية، كما تؤدي إلى التركيز في الأرباح الكبيرة السريعة وتحويل الأموال للجهات التي تقدم أفضل الضمانات والمكاسب، وبالتالي تتشكل علاقات تبعية واسعة جديدة وينحصرُ التصنيع فيما تم إنجازه سابقاً أو في صناعات استهلاكية ويتم فتح الأسواق للرأسماليات الغربية خاصة.

سوف تزداد هذه السماتُ في دول الخليج والجزيرة العربية خاصة حيث يغدو النفط أشبه بطاقة سحرية، مما أدى إلى ضخامة تبذير الثروة وسيطرة القطاعات غير الإنتاجية على الاقتصاد وترحيلها الفوائض للخارج، وتضخم الهياكل الإدارية، وانتشار الأفكار الغيبية والقدرية واستعادة الماضي الرعوي الثقافي بكل سلبياته، والاعتماد الهائل على القوى العاملة الأجنبية.

لقد أسهمتْ دول الخليج في تجاوز الرأسماليات الحكومية الشمولية في الدول العربية الأخرى، من دون تقديم نموذج إنتاجي رائد، وإذا قامت الدول العربية «الثائرة» بتقليد هذا النموذج من دون ثروته النفطية التي لا تملكها فتكون في حالة فوضى شاملة.

ولقد تسربت ثقافة الاستهلاك وسيطرة الرساميل غير الإنتاجية في تعضيد الجماعات الدينية التقليدية، التي اعتبرت البنكَ سواء بشكل التمويل الخادع أو بطريقة البنوك الإسلامية، الطريق لتنمية رأسمالية سريعة كاسحة.

إن توجه الدول العربية ذات الثورات إلى المحافظة الاجتماعية يعني تضخم القطاعات غير الإنتاجية وتقوية علاقات ما قبل الرأسمالية في الريف والحياة الاجتماعية وفي الثقافة.

لن تلعب الرساميل الصناعية دورا محوريا، عبر هذه التوجهات، وهذا كله لو حدث يعني تقارب سمات العالم العربي المتخلفة، وعجزه عن التحرك نحو التغييرات المطلوبة.

وهذا لو استمر فإنه يعني سيادة القطاعات التقليدية وغير الرأسمالية المتطورة التي تعبر عن الرساميل السائدة لدى القوى الدينية المالية والعقارية وغيرها.

إن هزيمة التيارات التحديثية الرأسمالية الدينية قد تتكرر كما حدث في نهاية العصر العباسي، عبر الانهيار العام والصراعات الطائفية والاجتماعية الحادة.

إن الصراع سوف يشتد بين التيارات الدينية والتيارات التحديثية الرأسمالية الصرفة والتيارات الديمقراطية، وسيبدو هذا كصراعات ايديولوجية وسياسية وليس كصراعات بين تعديل البنى العربية المتخلفة، وبين الحفاظ على تخلفها.

إن الدينيين يظهرون أنفسهم كما لو أنهم يعبرون عن الإسلام وليس عن الجوانب المحافظة التقليدية من هذه البنى وتعبيراً عن الرساميل غير المتطورة وعن علاقات الإقطاع في الأرياف العربية وعن الذكورة بامتيازاتها غير المبررة.

إن المسائل المطروحة للصراعات القادمة هي كيفية توجيه البنى العربية نحو حل مسائل الثورة الوطنية الديمقراطية التي فشلت الرأسماليات الشمولية في حلها، كالثورة الصناعية والثورة الثقافية والديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية ونقل الأرياف العربية نحو الحداثة.

ستظهر قوى متطرفة في كلا جانبي القطبين الكبيرين المتصارعين وسوف تظهر قوى وسط تقرب وتتوجه نحو حل تلك المعضلات - المشكلات المحورية في المجتمعات العربية بالتعاون بين أطراف عدة متى ما عملت القوى الشعبية على النضال من أجل التغيير وحل مشكلات الجماهير.

إن الإرث الرأسمالي كبير في التيارات الدينية لكنه يتوقف عند العائلات والوعي الفلسفي والفائدة والزراعة، أي عند الجذور التي جمدت حياة المسلمين في الماضي ولم تستطع الفئات الوسطى في العصر العباسي حلها، التي أسهم الإقطاع في عدم تجاوزها خاصة ضخامة البذخ، وتسريب العملات الذهبية للخارج. وهنا نجد المشكلتين مستمرتين، في عدم توجيه فوائض نقدية كبيرة نحو الإنتاج، وضخامة الهياكل الإدارية والاحتفاظ بالمليارات من العملات الصعبة في محافظ البنوك الغربية، وما سبب ذلك من خسائر جسيمة لهذه الفوائض ومنع وجودها في الدول العربية.

وقليلة هي الرموز والقيادات الدينية التصنيعية ومن هنا فإن الثقافة الدينية السياسية المنتشرة تتسم بالابتعاد عن العقلانية والاعتماد على الإرث الماضوي في تحليل قضايا اقتصادية وطبقية دقيقة لم يتطرق إليها التراث القديم، فيجرى الركون إلى ما وراء الطبيعة وتقل الدراسات العلمية للبُنى والاقتصاد، وتقوم الجماعات الدينية بتفكيك الأسواق الوطنية والإسلامية، بدلاً من توسعها وتوحدها، عبر انتشار سلطات فرقها المتعددة التي تعكس هي ذاتها ظروف التخلف الماضوية والتباين بين البيئات البدوية والزراعية والمدنية.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة