الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٦٣ - السبت ٢٨ يناير ٢٠١٢ م، الموافق ٥ ربيع الأول ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


سفك دماء أبناء «حديثة» حلال





قرية حديثة في العراق كانت واحدة من المناطق العراقية التي استحوذت على مساحة لا بأس بها من صفحات ومحطات وسائل الإعلام المختلفة عام ٢٠٠٥، ثم تلاشى الاهتمام بها وبالحدث الذي نقلها إلى وسائل الإعلام، ولكن هذه القرية العراقية البسيطة عادت من جديد لتتصدر اهتمامات المتتبعين للشأن العراقي، فهذه القرية الوديعة شهدت في ذلك العام واحدة من أفظع الجرائم التي ارتكبها الجنود الأمريكان في العراق حين أقدم عدد منهم على قتل ٢٤ مواطنا عراقيا في تلك القرية رميا بالرصاص في مذبحة دامت ثلاث ساعات انتقاما لمقتل جندي أمريكي، وكان بين الضحايا نساء وأطفال ومسنون أحدهم تجاوز عمره سبعين عاما، إلى جانب ركاب سيارة أجرة كانت تمر بالقرب من مسرح الجريمة حين داهمهم الموت الأمريكي الطائش.

مناسبة العودة إلى هذه المأساة هو ما تناقلته وكالات الأنباء عن «محاكمة» أحد الجنود الأمريكان الذين شاركوا في ارتكاب تلك المجزرة المروعة وهو السرجنت فرانك ووتريتش الذي كان يقود مجموعة من سبعة جنود آخرين في تلك القرية، هو المتهم الأخير بعد أن برئ جميع المتهمين الباقين، هذا المتهم لم يقدم للمحاكمة بتهمة القتل الجماعي العمد، وإنما بتهمة «التقصير في أداء الواجب»، بل الأقبح من ذلك أن الحكم لم يتعد تخفيض رتبته العسكرية ووقف عقوبة الحبس ومدتها ثلاثة أشهر بموجب اتفاق مع الادعاء.

بهذه الطريقة التي اسدل فيها القضاء العسكري الأمريكي على واحدة من أبشع الجرائم التي تورطت فيها القوات الأمريكية في العراق، يكشف مدى استرخاص الولايات المتحدة الأمريكية لدماء وأرواح الآخرين، ليس من أبناء العراق فقط وإنما من مختلف الجنسيات خاصة أبناء تلك الشعوب التي ترفض الخنوع للإملاءات الأمريكية، كما تكشف بجلاء الأهداف السياسية من وراء رفض الولايات المتحدة الأمريكية الانضمام إلى محكمة الجزاء الدولية.

إن جريمة قرية حديثة العراقية ما هي إلا واحدة من جرائم لا حصر لها اقترفتها القوات الأمريكية خلال تنفيذها جريمة غزو العراق عام ٢٠٠٣ حيث من الصعب حصر تلك الجرائم وإعطاء تفاصيل دقيقة عن الطريقة التي نفذت بها، ولكثرتها فإن ما ظهر منها هو ذلك النوع من الجرائم التي لا يمكن لعقل بشري أن يستوعب الدوافع التي يمكن لـ «إنسان» أن يقدم على ارتكاب مثل هذه الأفعال، كما حدث مثلا في سجن أبوغريب وما حدث في القرية المذكورة، ناهيك عن تلك الجرائم التي نفذتها الطائرات وبوارج الأساطيل الأمريكية حين كانت تصب نيرانها على المدن العراقية من دون تفريق بين هدف عسكري وآخر مدني، كما حدث مثلا مع ملجأ العامرية في بغداد.

فالتخريجة «القضائية» الأمريكية لمحاكمة المتهمين بارتكاب مذبحة قرية حديثة تشكل فضيحة أخرى تضاف إلى الفضائح الأمريكية التي تكشفت بجلاء فوق الأراضي العراقية حيث الجرائم والممارسات اللاإنسانية مثلت عناوين بارزة ودائمة لأفعال الجنود الأمريكان في ذلك البلد ومع ذلك لم نسمع عن محاكمة عادلة لأي من المجرمين الأمريكان، الأمر الذي يؤكد زيف الادعاء الأمريكي بمساواة دم الإنسان أيا كان جنسه أو عرقه، فالولايات المتحدة الأمريكية تؤكد من خلال ممارساتها في مختلف بقاع العالم - العراق يمثل البقعة الأكثر وضوحا - أنها دولة عنصرية ليس لدم الإنسان اعتبار حين يتعلق الأمر بمصالحها الخاصة.

فالولايات المتحدة الأمريكية من أكثر الدول تشدقا «بالدفاع» عن حقوق الإنسان و«بمناصرة» قضايا الشعوب التواقة للحرية والعدالة، ولكنها في واقع الأمر ومن حيث الممارسة العملية والفعلية، تمثل أخطر عدو لحقوق الإنسان، فالتاريخ والتجارب كلها تؤكد وتكشف عن أن أمريكا هي الدولة التي تتصدر الدول الداعمة والمساندة للأنظمة الديكتاتورية والقمعية، حيث يمثل الكيان الصهيوني - على سبيل المثال لا الحصر - أحد الأدلة الدامغة التي تؤكد حقيقة الصفة الانتهازية والإجرامية للسياسة الأمريكية.

فجريمة قرية حديثة العراقية لا تحتاج إلى تكييف قانوني يخرجها من الوصف الإجرامي، فطريقة تنفيذها تؤكد أن هناك نية قائمة لقتل أكبر عدد من المواطنين العراقيين، كما أن أعمار الضحايا (الكثير منهم أطفال ومسنون وغير مسلحين) كفيلة بتأكيد نية القتل الجماعي وإزهاق أكبر عدد من الأرواح بدوافع انتقامية، أكدتها التحقيقات العسكرية الأمريكية، أي أن الجنود انتقموا من أناس ليسوا مسلحين ولم يبدوا أي مقاومة في وجه الجنود الذين نفذوا تلك المذبحة، لكن طالما أن الدم الذي سفك ظلما هو ليس دما أمريكيا، فإن عملية السفك وفق الممارسات الأمريكية المألوفة هي عملية مبررة ومباحة، فهي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، إن في العراق أو في فلسطين وفي أكثر من بقعة حيث يوجد جنود أمريكان أو غيرهم ممن يعدون شركاء في التربية الإجرامية.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة