الزول وأينشتاين
 تاريخ النشر : الأحد ٢٩ يناير ٢٠١٢
جعفر عباس
في مدينة سودانية عملت بها في بداية حياتي العملية، لفت نظري شاب يملك قدرات خطابية عالية، ولا يتلجلج أمام المايكروفون، بل تتدفق الكلمات من فمه كالشلال مشحونة بالمعلومات الدسمة، ومن ثم فقد كانت خطبه السياسية تستقطب جمهورا كبيرا، مما جعله نجما مرموقا في صفوف الحزب الذي كان ينتمي اليه، ولكنني لاحظت انه يتلاعب بالحقائق والأرقام والتواريخ، ولا يتردد في القول ان حدثا مهما وقع في اليوم الحادي والثلاثين من فبراير، بل كان - مثلا - «يوثق» كلامه بتأكيد ان الزعيم السوداني الكبير اسماعيل الازهري خاطب الجمعية العامة للأمم المتحدة في تمام التاسعة صباحا بتوقيت الخرطوم في الخامس من مارس من عام ١٩٣٥ طالبا الدعم لإخراج الانجليز من السودان.. وكان الناس يعجبون بذاكرته الفذة التي تختزن تفاصيل الاشياء ولكن قلة منهم كانت تعرف انه لم تكن هناك أمم متحدة عام ١٩٣٥، وان الازهري لم يسافر إلى نيويورك في تلك السنة ولا بعدها بعشر سنوات، وقد قاطعته مرة منبها اياه إلى ان التواريخ التي أوردها غير صحيحة فأفحمني بسيل من الأكاذيب مثل: راجع الطبعة الثالثة من صحيفة نيويورك تايمز ليوم الخميس ٦ إبريل من عام ١٩٥٥ وأخرج من جيبه شريطا مسجلا زعم ان به خطبة لزعيم مات قبل اختراع التسجيل الصوتي، وصادقت الرجل لاحقا واعترف لي ان الخطابة المنبرية تتطلب جرأة في طرح الحقائق والأرقام بغض النظر عن صحتها، واعترف أيضا ان الغوغائية سلاح فعال للتعبئة السياسية، وأنه لا بأس في ان تدرك قلة انه خراط وهجاص وشلاخ وأفاق طالما غالبية مستمعيه مقتنعون بصحة ما يقول.. وأضاف: الحكام يكذبون ويحولون العجز في الميزانية إلى فائض، وإذا افتتحوا سوقا جديدة للعلف زعموا انه بداية طفرة صناعية، وإذا حدث شح في المواد التموينية قالوا انه مؤامرة امبريالية «تهدف إلى النيل من مكتسبات الثورة»... وكانت زبدة كلامه أن الجماهير تحب من «يشحنها عاطفيا».. مصداقا لمقولة المفكر السعودي الراحل عبدالله العصيمي إن العرب «ظاهرة صوتية».
وبما أنني أسرق الكثير من أفكار ومضامين مقالاتي من رسائل الأصدقاء التي تأتيني عبر الانترنت، فلا بأس في أن أسرد عليكم حكاية طريفة -ربما سمع بها بعضكم - عن عالم الرياضيات الفذ البرت اينشتاين صاحب نظرية النسبية، فقد سئم الرجل تقديم المحاضرات بعد ان تكاثرت عليه الدعوات من الجامعات والجمعيات العلمية، وذات يوم وبينما كان في طريقه إلى محاضرة، قال له سائق سيارته: أعلم يا سيدي انك مللت تقديم المحاضرات وتلقي الأسئلة، فما قولك في ان انوب عنك في محاضرة اليوم وخاصة أن شعري منكوش ومنتف مثل شعرك، وشكلي مبهدل مثلك وبيني وبينك شبه ليس بالقليل، ولأنني استمعت إلى العشرات من محاضراتك فان لدي فكرة لا بأس بها عن النظرية النسبية، وأستطيع أن «أخُم» المستمعين بمصطلحات علمية بعضها صحيح وبعضها مفبرك، ولكن لو صدقوا أنني انت (آينشتاين) فإن المسألة «ستعدي على خير»، فأعجب اينشتاين بالفكرة وتبادلا الملابس، ووصلا إلى قاعة المحاضرة حيث وقف السائق على المنصة وجلس العالم العبقري الذي كان يرتدي زي السائق في الصفوف الخلفية، وسارت المحاضرة على ما يرام إلى ان وقف بروفيسور متنطع وطرح سؤالا من الوزن الثقيل وهو يحس بأنه سيحرج به اينشتاين، هنا ابتسم السائق المستهبل وقال للبروفيسور: سؤالك هذا ساذج بدرجة انني سأكلف سائقي الذي يجلس في الصفوف الخلفية بالرد عليه.. وبالطبع فقد قدم «السائق» ردا جعل البروفيسور يتضاءل خجلا!!
jafabbas١٩@gmail.com
.
مقالات أخرى...
- لصوص ولكن ظرفاء - (28 يناير 2012)
- كازيبوي وجماعة العتبة قزاز - (27 يناير 2012)
- لماذا الأرض «لا تتكلم عربي»!! - (26 يناير 2012)
- ليت لي حظ العقبي - (25 يناير 2012)
- لا للتمييز بين الحيوانات - (24 يناير 2012)
- لا تحسسونا من الحساسية - (23 يناير 2012)
- لن أشتري الهمّ بفلوسي - (22 يناير 2012)
- لا يخاف من الغزو إلا الأعزل (٢) - (21 يناير 2012)
- لا يخاف من الغزو إلا الأعزل (١) - (20 يناير 2012)