الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٦٦ - الثلاثاء ٣١ يناير ٢٠١٢ م، الموافق ٨ ربيع الأول ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


لماذا خندقان؟





تتمكن الفئاتُ الوسطى أكثر من غيرها من إنتاج أشكال النفعية المخصصة لمصالحها الخاصة، وهذا شيء اجتماعي (غريزي)، موروث إسلاميا من الفئات الوسطى العربية القديمة، التي كرست فقهاً مخصصاً لمصالح الطبقات الحاكمة، مع القياس الخاص لملابس العصر الاجتماعية، حيث تتوجه الأحكام لما هو غير جوهري في البناء الاجتماعي، وتبتعدُ عن مصالح الطبقات العاملة، وإنتاج أحكام لها. فتركز مثلاً على سرقة الأشياء البسيطة وتغض النظر عن سرقة المصالح العامة. حتى قاد هذا النظر لزوال الخلافة ولتمزق الشعوب والأمم.

العزلُ والتحييدُ الذي تقوم به جماعات الانتهازية يقودان إلى مناهج شكلانية في الأحكام، التي تتنامى حتى تجف ضروعها. وهكذا تغدو مسائل النظر الفقهي شبيهة بمسائل النظر في الأحكام الأدبية والفكرية حتى تغطي كل إمكانيات للتحليل الموضوعي على الظاهرات المتعددة.

ورث المعاصرون هذه العمليات القرائية المصلحية مع إضافة بعض الجوانب الغربية، وصار التقليديون السياسيون والتقليديون المذهبيون هم (منجزات) الأمم الإسلامية الكارثية، فقد ظهرت عينان اثنتان، كل منهما تنظرُ لجهة.

ولهذا فإن هذه الأممَ انقسمتْ بين دولٍ عربية إسلامية وإيران.

سنةٌ أو شيعةٌ. مسلمون أو مسيحيون، طائفيون أو حداثيون، حكام أو معارضة مدمرة، عرب أو أمازيغ، شمال سوداني أو جنوبٌ مسيحي منشق، مؤيدون عملاء لفرنسا في الجزائر أو حارقون للأرض الجزائرية، عربٌ نصوصيون بداة أو أقباط كنائسيون، وسط وشمال العراق أو جنوب العراق.

والإمكانياتُ الأخرى للنظرِ الليبرالي الوطني والديمقراطي التوحيدي والتقدمي الشعبي صارت خارجَ الرأس.

والرأس يتجهُ الآن للانقسام الكلي، وللانفجار. شق في الشرق وشق في الغرب وبينهما برزخ لا يلتقيان، وممر هرمز يمتلئُ بالألغام والسفن المحروقة، ويرفضُ هرمز اللقاءَ بين الضفةِ الشرقية والضفة الغربية ويفضل الانتحار!

زوج متسلط أو زوجة خانعة.

أسرة مأسورة أو أسرة مفككة.

ماضوي متكهرب محنطٌ في نصوصه أو حداثي يرفسُ التراث.

الانقسام الثنائي نفسه في العصر السابق وهو إما خلافة وإما كفرة، إما عاصمةٌ تحكم، وإما خوارج ومتمردون وعملاء ومندسون وطابور خامس.

إما أناس احتكروا المال العام وإما عاطلون وفقراء ومعوزون وشحاذون.

إما غنى لحد التبطر والعجز عن التطور وإما فقر لدرجة التحلل وفقدان أي قدرات.

تنتج الظاهرات الحادة من نظر قاصر حاد، يرى غرائزه ومصالحه المحدودة هي وجوده، وأسرته هي عالمه،

وفئاتُ العقل والبحثِ وردم الهوات وإيجاد الجسور وصانعو التوحد والنظرات الثقافية الموسوعية، منبوذون، مبعدون، فالفريقان المتصارعان لا يسمعان سوى المديح أو الهجاء، والفرقُ العازفةُ عليهما الضحلة التفكير، لا تستطيع أن تطور قدراتها فإذا طورتها نُبذت، وإذا حفرت في الخرائط الاجتماعية والسياسية غُيبت.

المشاهد الانقسامية تصل إلى ذروة الجحيم العربي في سوريا الفيحاء:

إما بعث حارق وإما شعب محروق!

إما طائفة علوية وإما طائفة سنية!

فكيف ضاعتْ كلُ عقود التنوير والثقافة العقلانية والجيش الوطني الواحد؟

أين تراث ميشيل عفلق وخالد بكداش ويوسف العظمة وغيرهم؟

الوسطاء، واللجان، وبعثات المراقبة، وتقارير الأمم المتحدة، ومجلدات الحكمة المفتوحة، والاجتماعات والجبهة القومية، والبرلمان، كيف كلها لم تغير مصالح متكدسة على اللحم الشعبي، كيف ضاعت ولم يبق سوى طوائف تتصارع وخندقين بينهما بارود ونار؟

مضت عقود والفئات الوسطى تتوجه لجهة واحدة، وتركز فقط في مصالحها الخاصة، وتصمت عن الأخطاء العامة، ولا ترى سوى بعين واحدة، حتى تتفاقم الأمور والتناقضات وتصل كثير من الدول إلى خندقين لا يلتقيان.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة