تجارةُ دلمون خطوةُ الخروجِ إلى العالم
 تاريخ النشر : الأحد ٢٦ فبراير ٢٠١٢
عبدالله خليفة
إن المدنَ الصغيرةَ النامية في الخليج في أوائل الألفية الثانية قبل الميلاد، خاصة دلمون، يقودها وضعُها الجزري المحدودُ للخروج إلى العالم، غير قادرة على البقاء طويلاً في هذه المحارة مع تنامي تطورها الاقتصادي الداخلي وسكانها ومع تنامي التجارة قربها في أهم خطوطِ المبادلات بين الهند والعراق وسوريا.
حتى الآن نحن أمام مادةِ التكونِ الداخلي الأولى في هذه الجزر، ومعرفتنا محدودة ولا نعرف بشكل كبير إذا ما كانت لديها قدرة على تكوين مدن صغيرة تجارية أم مستوطنات صغيرة، وما هي ملامح الاقتصاد وأعداد السكان؟
هذه أسئلةٌ من الصعب الإجابة عنها كلها دفعة واحدة، خاصة إننا نطللا على دلمون الغامضةِ من خروم إبر، هي هذه المُسماة الأختام الدلمونية.
إنها أجزاءٌ صغيرةٌ تحددُ ملكيةَ الشخصياتِ التجارية بدرجةٍ أساسية، ولها أهدافٌ دينيةٌ وشخصية أخرى، لكن دورها التجاري هو محور وجودها ومنها تكتشف المعلومات المهمة التي تحدد بها الوضع الاقتصادي.
وعلى هذه الأختام تُحفر رسومٌ متعددة، ومن خلال درس هذه الأختام استطاع الآثاريون أن يقتربوا من ملامحِ المدنِ الصغيرةِ الناهضةِ التي وصلتْ إلى مرحلةٍ تجارية تبادلية: داخلية وخارجية، وهو أمرٌ يعني تفكك البُنى القبلية ذات الاقتصاد الطبيعي المنغلق، وتحولها إلى مبادلات على المستويين المحلي والقاري الآسيوي، وتنوع المستويات الاجتماعية المنبثقة عن تنامي التبادل هذا.
تلك الشفراتُ الحجريةُ الفنية المسماة الأختام، أعطت تلك المعلومات الشحيحة، وقد عكف للحصول عليها ودرسها والحوار حولها باحثون كثيرون، وضعوا الخطوطَ العريضة لذلك المجتمع الصغير الطالعِ من بين الأحجارِ والزرع الضاري والبحر المحاصر.
في مستوطنة قرية سار البحرينية ذات التسمية الحديثة التي عكف على درسها الآثاريون الغربيون توجد البيوتُ الصغيرة المتقاربة، ذات السكان المعتدلي الأعداد، وثمة شارعٌ رئيسي تصطفلا حوله البيوتُ الأكثر تميزا اجتماعيا، ووُجدت الأختام في العديد من البيوت من دون أن تكون دليلاً على أمور اقتصادية فحسب.
لكن الملامح التجارية بارزة:
هناك (طرود احتوت على أصناف عديدة من المواد الصلبة من أقمشة و«حُصر» وربما مواد غذائية.) و(تظهر علامةُ مُلاكٍ على جرة مطبوعة، بين رقبة وكتف هذه الجرة مما يعني انها احتوت سائلاً كالجعة أو ربما نوع من الزيوت معدة للبيع)، (كتاب الأختام الدلمونية المبكرة من سار، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص ٥٦).
المفردات التجارية الأخرى عديدة مثل أن الأختام وُجدت بنسبةِ ثلثٍ في بيوت الشوارع الرئيسية المميزة، ولا يُلاحظ وجودُ جهازٍ بيروقراطي وسيطٍ لتداول هذه البضائع، مما يُرجح وجود انسياب في تدفق السلع من المستوطنة للعالم الخارجي، (كما أن مجموعة صغيرة من الأقراص ربما تم استخدامها كتعريف أو تصريح من قبل أشخاص خاصين أو رجال أعمال)، ص .٧٥
(إن بعض السكان كانت لهم نشاطات تتعلق بمنتجات محلية كالجعة والأقمشة التي تم فيما بعد مقايضتها مع جيرانهم)، (يبدو أن المجتمع في سار كان متساوياً وشبه مستقل).
(يمكن القول ان رجال أعمال مستقلين قد استخدموا هذا النظام البسيط لتمكين مرافقيهم من أداء العمل نيابةً عنهم، فتعطي تلك الأقراص للموزع للاقرار بتسلم البضائع أو المؤن، وبالتالي يمكن استعادة القيمة عند إبراز هذه الأقراص)، ص.٦٢
هذا النظام التجاري التبادلي المكون الأساسي للمستوطنة، يظهرُ في مستوطناتٍ أخرى في دلمون، لتغدو البلد جزءًا من شريان تجاري عالمي أوله هو منطقة شرق الجزيرة العربية التي لم تكن عربية وقتذاك، وكذلك جزيرة فيلكا، ثم تتكاثر خيوط الاتصالات مع جنوب العراق، ثم سوريا خاصة، ويتمكن الباحثون من الربط من خلال أدلةِ الأقراص ورسوماتها، (وهذا المشهد ذو الجرة الموضوعة على الأرض أكثر شيوعا في سوريا منها في بلاد الرافدين، ويمكن رؤية نفوذ هذه المنطقة أيضا في صورة القرد الغريب أو الكائن الذي يشبه النمس على عدد من أختام دلمون المبكرة).
الآثار والكتاب لا يقدم لنا أسباب هذه الصلات القوية بسوريا، لكن نحن نعرفُ بعضَ الخيوط الواهية حول خروج ذلك الشعب الذي أُطلق عليه الشعب البحري والذي سُمي بعد ذلك الكنعانيين أو الفينيقيين حسب مصطلحات الشعوب لتحديدهم، وبعد قرون عديدة وهم يبحرون ويسكنون مرافئ ومناطق الجزيرة العربية الساحلية نحو البحر الأحمر ثم نحو البحر الأبيض المتوسط وتكوين الدويلات المدنية المعروفة على شواطئ البحر الأبيض الشرقية.
أما اللغة التشكيلية في الأختام المركزة على الكائنات الحيوانية فهي تعكس لغة الوعي التي ترى هذه الحيوانات المقدسة كالثور والحيات وغيرها كثير، ويظهر معها الإنسان الذي يتداخل بها ويصطادها ولكن مساحة الأختام الصغيرة الصعبة في الحفر والتشكيل لا تتيح تفسيرات مهمة عن هذه العلاقة بين الكائن البشري الذي يظهر عاماً وسلسلة طويلة من الكائنات من الثور حتى القواقع والسرطانات، وهذا كله انعكاسٌ بسيط لعلاقة الكائن البحري الزراعي بالمخلوقات المنتشرة التي تحيطُ به
.
مقالات أخرى...
- اليسارُ والتكويناتُ الاجتماعية الدينية - (25 فبراير 2012)
- شكلان للتناقض في العمل السياسي - (24 فبراير 2012)
- بعضُ مشكلاتِ الخليج الاقتصادية - (23 فبراير 2012)
- حلٌ توافقي - (22 فبراير 2012)
- الثورةُ السوريةُ والحضورُ الإيراني - (21 فبراير 2012)
- مستوياتُ الدينيين والتحولاتُ السياسيةِ - (20 فبراير 2012)
- البحرين جزيرةُ الحريةِ الغامضةِ في العصر القديم - (19 فبراير 2012)
- مشكلاتُ الجيران السياسية - (18 فبراير 2012)
- انطفاءُ المركزياتِ الحادة - (17 فبراير 2012)