الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٣٨٦ - الاثنين ٢٠ فبراير ٢٠١٢ م، الموافق ٢٨ ربيع الأول ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


مستوياتُ الدينيين والتحولاتُ السياسيةِ





اشتعلت التغييراتُ العاصفةُ في العالم العربي عبر وعي ديني محافظ غير عميق، ويفتقدُ قراءة الجذور الاقتصادية الاجتماعية للأزمات وبُعد النظر.

هو يعبرُ بهذا عن الرجال المحافظين ذوي الأملاك الكبيرة والنفوذ السياسي الاجتماعي في القبائل والجماعات التابعة والريفيين المتحولين لحضر، وعبر مذهبيات عدة تعكسُ ليس مقولات الإسلام العميقة بل درجات مصالح وقرابات هؤلاء الرجالِ في بقعِهم الجغرافية ذات الإنتاج القديم.

فالرجالُ ذوو الميراثِ البدوي الشديد تتجهُ نصوصُهم الدينيةُ للمحافظة، وقراءات السطوح الأبرز من الظواهر، فيركزون في العلاقات بين الرجال والنساء من ذلك المنظور الذكوري، كما يركزون في الأزياء والأشكال الخارجية من الجسد والثياب والعادات المتوارثة، ولهذا فإنهم يرفضون الظاهرات الاجتماعية الفنية والاختلاط والعقلانية، معتبرين تقييد النساء بؤرة مركزية في نظراتهم خاصة أن هذه الظاهرات تجمعُ الناسَ كبشر متحضرين وليست ككائنات مادية، ولهذا فإن قدرتهم على الاقترابِ من قضايا الأمم الإسلامية تغدو محدودة، فهذه الأممُ تسعى لانقلاب اقتصادي إنقاذي من العوز والتخلف ومن غياب تخطيط الموارد والعدالة للقوى العاملة المفُقرةِ خلال عقود مضنية وإلى توسيع أشكال الوحدة في كل بلد، وأشكالها على مستوى هذه الأمم نفسها وعلى توسيع التعاون على مستوى العالم.

وإذا كانت هذه الأقسامُ ذاتُ الخطاباتِ البدوية ليست ذات حضورهين، وتتركز في الكثير من بقاع شمال أفريقيا، وفي مصر الأرياف خاصة، ولها حضور كبير في الجزيرة العربية واليمن والشام والعراق وغيرها، فإن بصماتها على الأحداث الراهنة والمستقبلية ستتعاظم وتقوى.

في حالاتِ التسييس وتحولِ مثل هذه الرؤى إلى أحزاب وجماعات وقوى مسيطرة فإننا نتوقعُ تفكيك الدول العربية، وعودة صعود البوادي كدولٍ أو كأقاليم مستقلة أو متمردة، وكانت عملياتُ دمجِ هؤلاء في المدن عبر نزوحِهم الكثيف وعدم حل قضايا البوادي والأرياف، أو بسبب عمليات التحضر الشكلية والبذخية في المدن، فقد شكل هؤلاء عداءً كبيراً للحضارة المعاصرة، حيث تتحول عمليات التحديث في المدن إلى استيلاء على الأموال العامة، وغياب التخطيط الاقتصادي و(العدل) الاجتماعي، وتتعاظم مشكلة هذه القضايا مع العولمة وهجرة العمال الأجانب وتدفق المعلومات وأشكال الثقافة العالمية.

إن الدمج السريع بالمدن مع وجود أدوات حكومية كبيرة مركزية قاسية، من دون أن يَحترم هذا الدمج تكوين هذه الجماعات البدوية الريفية ذات الجذور الخاصة ويحل تطورها المستقل، أدى إلى ما يُرى الآن من تفككِ العراق بشكل عنيف حاد ولجوء القوى البدوية الوسطية في الخريطة للاستقلال عنها، وهذا مماثل مما يجري في سوريا، حيث يجري هجوم هذه البوادي والأرياف على المدن، وظهور سلطة سلفية في الريف المصري، والريف الجزائري وغير ذلك من ظاهرات.

ولا شك أن هذه التحولات خاصة في المشرق سوف تترك آثارها على الجزيرة العربية ذات القوى البدوية السكانية الواسعة.

المستوى الثاني من الدينيين الأقرب للحداثة والرأسمالية المعاصرة لم يحلوا مشكلاتهم الفكرية والسياسية على مدى القرن الماضي، وقامت أبرزُ فصائلِهم في شمال أفريقيا بتكوين تجارب متفاوتة في القبول بالديمقراطية السياسية العامة حتى الآن.

ومهمات التحويل الصناعية والاجتماعية الديمقراطية تؤدي حتما للصدام بين المستويين الدينيين الاجتماعيين، وإذا لم يقم هذا المستوى بقراءة التجارب التحويلية الشمولية المركزية السابقة وإعادة النظر فيها، والتمسك بإيجابياتها كالقطاع العام الصناعي ودوره المحوري، وقيامه بالتخطيط وبداية توزيعه للفائض الاقتصادي الوطني من دون استكمال له، بسبب الشمولية المركزية، فإن الخطاب الليبرالي الديني سوف يجابه الصراع على جبهات عدة تضعضعه وتخلخل البلدان وأقسامها فلا تفلح عمليا التقارب بين الدول العربية والإسلامية على أساس السوق والتطور الديمقراطي المشترك.

أما المستوى الثالث وهو الأماميات المختلفة فإنها كانت تحمي تقاليدها في المناطق الزراعية أو الصحراوية أو في الجبال، أو تكون دائرة قومية قوية ترفض دخولها من قبل الآخرين، ولكنها تجد نفسها الآن في علاقات معقدة مضطربة، مع بقية المسلمين ومع العالم، لا تتخذ مواقف مناسبة لكل نظام اجتماعي، ولا تبحث عن موقفها الوطني الداخلي المميز لكل مرحلة وظروف، بل تقف مع شعارات عامة سياسية تجعلها لا تؤثر بعمق.

التركيز في البرامج الاقتصادية والاجتماعية وتغيير الظروف المعيشية للأغلبيات الشعبية، وترك مسائل الاختلاف الديني، واحترام التباين والتقاليد والحريات المختلفة لكل الأديان والمذاهب، هي الخطوط العريضة التي ينبغي للقوى السياسية التركيز فيها وتحويلها لقواعد لعمل الحكومات والبرلمانات، وإلى أجندة اقتصادية سياسية تنقل الناس ربما عبر سنوات عديدة إلى بناء استقرار وتقدم للخريطة العربية الإسلامية المضطربة.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة