بين الوحدةِ والتفتتِ
 تاريخ النشر : الثلاثاء ٢٨ فبراير ٢٠١٢
عبدالله خليفة
لا يعرف الشرقيون على مدى تاريخهم الطويل الجمعَ بين الوحدة والديمقراطية، وتأسيس التنوع والاختلاف معاً، ومنذ أن أسس البابليون إمبراطوريتَهم وتوسعوا في محيطهم يضمون البلدانَ ويغزون البوادي، والإمبراطورية تؤدي إلى إثخان الشعوب بالجراح، وتحويل العاملين فيها إلى عبيد والنساء إلى جوارٍ.
تتوسع أي دولة حيث تتشكل القمة من قيادة خاصة تجمعُ الثروات ولا تستطيع تطويرَ قوى إنتاجها الخاصة، فإذا طورتها فهي لاستمرار القنوات والحرف عضدي الإنتاج الحيوي وللبناءات الباذخة المظهرية التي غدت لدى الناس (عجائب الدنيا)، لأن العملَ الرخيصَ للعبيد الذين حملوا تلك الإنشاءات هم الذين تعبوا وهم الذين لا يُدفع لهم سوى بعض الأغذية تبقيهم على قيد الحياة، لكي يواصلوا تشييد الأعاجيب، ويقوم بعضُ المتعلمين بهندسة وتصميم تلك الإنشاءات في نظير أجور أفضل قليلاً من أجور العبيد.
تغدو الإلهة الكثيرة المعبرة عن مدن وأقاليم الإمبراطورية والمعبرة عن قوى الناس التي جُردت وغدتْ قوى خارجية مهيمنةً عليهم مثل كل ما ينتجونه من أدوات كالسلطة والنقود والجيوش ومعبرةً كذلك عن السلطات المحلية والدينية التي لا تذوب في كيان الإمبراطورية مهما اتسعت، لأن الوحدة في الشرق فوقية إدارية، والإمبراطوريات هي أجسامٌ سياسية عسكرية عند النخب الحاكمة.
الكائنات الدينية الأسطورية تتعدد وتتلون حسب إيقاعات الأحداث التاريخية، وتعكس قوى الإنسان العميقة كذلك، وطبيعة السلطات السياسية من أمومية تخبو مع تصاعد الدول وهيمنة الذكور، إلى ذكورية تتقوى في كل شؤون الحياة.
كلُ توسعٍ فوق الشعوب يتبدلُ بهدم للإمبراطورية وتحولها لبساطٍ ممزقٍ من الدويلات، هي تجميعُ ثرواتٍ في مراكز معينة، لكن الشعوبَ لا تستطيع أن تواصلَ شحنَ دمائِها لهذه العواصم الجبارة، وما كانت آلهةً موحدةً تغدو عودةً لما قبل الألوهية الموحَّدة، تصيرُ مذاهب كثيرةً ومللاً عديدة، حتى يهب إعصارٌ من مكان ما، وتزحف إمبراطورية كالإمبراطورية المصرية وتؤسسُ تجميعاً هائلا للشعوب، وتجد الشعوبُ بعد فترة من السحق ضرورة وجود الوعي التوحيدي، وتجذب الأممُ الشرقيةُ الأممَ الغربيةَ لدائرةِ التاريخ المركزية فتظهرُ الإمبراطوريةُ الإغريقية ثم الرومانية، تقومان بذات الفعل من تجميع الثروات وهدرها، والقيام بأعمال فكرية واقتصادية في ظلال هذه الأعاصير. ثم تظهر الإمبراطورية العربية فالإمبراطوريات الغربية من إسبانية وبرتغالية وبريطانية وأمريكية وروسية.
عواصمُ الإمبراطورياتِ تتألقُ بالثقافة وبنشرِ الكتب والفنون والعمارة تأخذُ موادها من الأريافِ الغارقة في العمل والجهل، ومن البوادي التي تقدمُ الجنودَ والضرائب، لكن المدن الكبرى المركزية العواصمَ المتألقةَ تبهتُ ويصعبُ عليها إيجاد الموارد وتدخلُ في العجز وهي في قمة ثرائها الباذخ المظهري، فتتقطع الخيوطُ السياسيةُ والاقتصادية، والعملاتُ تتدهورُ قيمها، والأزماتُ تتفجرُ من دون إدراكٍ لمصادرها، والاقاليمُ النائمةُ تتحركُ بأشكالٍ غيرِ عقلانية تعكس قرون الاستبداد والتخلف وجعل العاملين آلات بشرية.
تبدو المدن الهائلة ذات البنايات العظمى على هيئاتِ وحوش أسطورية إمتصتْ أغلبَ قيم العمل البشري من عملٍ ملموس وهندسةٍ تصميمية وعلومٍ فيما المساحاتُ الهائلة للبلدان تغرقُ في العتمة وتعيش على السطوح الأرضية.
في الزمن المعاصر تحاول الأممُ والشعوبُ العثورَ على صيغٍ توحيدية جامعةً للاختلاف والتنوع، لاستمرار العلاقات بين القمم الرشيدة والقواعد العاملة، ولبقاء هياكل الدول وإعطاء الإقاليم والبوادي والأرياف حقوقها من الأموال العامة والتصويت الوطني العام والمؤسسات والمشروعات، ولم تعد القوى المركزية والفوقية هي التي تقرر وحدها المشروعات والميزانيات، ولهذا فإن صيغ المذاهب المتصارعة والأديان المتنابذة والفلسفات السياسية الحديثة التي تلغي كلٌ منها الأخرى، لم تعد تعبرُ عن الحراكِ السياسي البشري العالمي، لكن الناس في كل مكان مغروزون في تواريخهم القديمة، وتقاليدهم الدينية، وأفكارهم الماضوية التي عبرت عنهم وعن جودهم فيما مضى وأصبحت تنظم تقاليدهم وأشكال معرفتهم البسيطة ويجدون صعوبات جمة في الملائمة بينها وبين ثورات العصر المعرفية والسياسية والثقافية.
كما أن الخريطة الأرضية مازالت تعيش على حراك الإمبراطوريات المهدمة والمتواصلة، وينقسم العالم الآن بين إمبراطورية غربية مهيمنة وإمبراطوريات شرقية محطمة، الأولى تفرضُ أسلوبَ إنتاج رأسمالي هو بحد ذاته انقسامي تفكيكي يركز الثروات في مدن غربية هي قمم المدن في تاريخ البشرية كله، بكل مركزيتها وتضخمها المالي، وأسلوب إنتاج شرقي رأسمالي لم يصل بعد إلى المستوى الغربي، ومازال في عالم التفكيك القديم، والجانبان يتصارعان من أجلِ حلولٍ وسط وتاريخ جديد يطور الجميع دون أن يحصلوا على هذه الصيغة في الحياة الاقتصادية الحقيقية التي هي صراع مستمر على الثروة والمكاسب الذاتية كل من جانبه.
.
مقالات أخرى...
- بين الثقافةِ والنواب - (27 يناير 2012)
- تجارةُ دلمون خطوةُ الخروجِ إلى العالم - (26 فبراير 2012)
- اليسارُ والتكويناتُ الاجتماعية الدينية - (25 فبراير 2012)
- شكلان للتناقض في العمل السياسي - (24 فبراير 2012)
- بعضُ مشكلاتِ الخليج الاقتصادية - (23 فبراير 2012)
- حلٌ توافقي - (22 فبراير 2012)
- الثورةُ السوريةُ والحضورُ الإيراني - (21 فبراير 2012)
- مستوياتُ الدينيين والتحولاتُ السياسيةِ - (20 فبراير 2012)
- البحرين جزيرةُ الحريةِ الغامضةِ في العصر القديم - (19 فبراير 2012)