الثورةُ السوريةُ
والمحتوى الشعبي
 تاريخ النشر : الأربعاء ٢٩ فبراير ٢٠١٢
عبدالله خليفة
رغم الحرب العدوانية التي يشنها النظامُ الدكتاتوري ضد الشعب السوري فإن أطرافاً كثيرة مترددة لأسباب سياسية كبيرة مخفية، وقوى شرقية شمولية تستميت في الدفاع عن النظام.
النظام يجابه الشعب بالمدافع والصواريخ ومؤتمر تونس يدين ويعترف بالمجلس الوطني بشكل محدود، ويترك الحل الجذري للمستقبل.
عمليات الذبح التي تحدث بصور مروعة، يقشعر لها كل كائن بشري، والبعض يقارنها بأحداث أخرى ويطلب أن تعطى تلك الشعوب الحسم نفسه المراد للثورة السورية. وهي آراءٌ تدافع عن هذا النظام الفاشي بكلمات النضال وغيرها.
الشعب السوري لم ينزلْ لأرض الثورة بتخطيطٍ مسبق، ولا بإعدادٍ من جماعةٍ تنتمي إلى طائفة، أو بكوادر من قومية ما تنبذ القوميات الأخرى، بل بسبب ملايين نزلت بشكل عفوي واسع النطاق، نتيجة أحداث سلخ أجساد أطفال واتسعت من درعا إلى كل مكان.
الثورة هي فعل شعبي عفوي، حين يصل شعبٌ ما إلى درجة عدم الاحتمال.
طبيعة الثورة تختلف عن الأعمال الطائفية المُبرمجة، التي هي مؤامرةٌ أكثر منها هبة شعبية عفوية، ولهذا فإن عنصراً ما من الشعب أو الأمة، لا يستطيع أن يوجد حراكاً سياسياً موضوعياً، بل الثورة هي فعل الشعب العفوي الواسع النطاق الذي يحدث بسبب أزمة عميقة لا يستطيع أي نظام أن يتجاوزها.
الثورة هي عجزٌ من الطبقات العليا أن تحكم وفعلٌ من الطبقات الشعبية لأنها لا تستطيع أن تواصل البقاء في ذات الظروف.
لقد وصلت الطبقاتُ الشعبيةُ السورية إلى الفقر المدقع، فعدة ليرات كدخل يومي أمر غير محتمل، وقد احتملته هذه الطبقات على مدى سنوات، والنظام يصرف على التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل من دون أثر لهذا الصرف سوى ضخامة الأداة العسكرية وتكوين طبقةٍ خاصة هيمنت على أغلبية الثروة.
هل يمكن أن نقارن دخل الفرد السوري الشعبي بدخول الأفراد في دول الخليج مثلاً؟ من المبالغة قول ذلك. وإذا قيل فهو أدلجة فاقعة وتسييس حاد.
الأزمة الثورية السورية أزمة موضوعية غير مختلقة، وقد عصفت بالنظام وهزته بقوة كبرى، وقام بذلك الناس العاديون الكادحون هؤلاء الذين وصلتْ معيشتُهم إلى الحضيض، فضحوا بدماء غزيرة.
وهؤلاء لم يشتغلوا لفصل سوريا لأنها جزء من المحور السوري الإيراني، ليس ثمة أي كلمة أو وثيقة تقول هذا، وهم لم يشتغلوا لتحريك الجامعة العربية، بل ناضلوا من أجل تغيير نظام أطبق على معيشتهم لحد الاختناق.
السبب معيشي اقتصادي، ومن هنا كان الفقراء العاملون هم قواعد هذا التحرك وينطلقون فيه من خلال ما يتوافرُ لهم من أمكنةِ تجمع عبادية، خضعت هي الأخرى للحجر والضرب، لكن غدت كل الأماكن مفتوحة للثورة بعد ذلك، فقد طلعت من بؤر التجمع وحولت كل مكان للتجمع.
هذا التحول يثبت عدم التخطيط والبرمجة وعدم الاعتماد على التآمر وعلى عدم الارتكاز على جماعة قومية أو دينية غير متضافرة مع بقية الناس، ثم جرى التحول إلى نضال في أغلبية الطوائف والقوميات وامتلأت الخريطة الوطنية كلها بفعل الشعب، فحدث تدفق هائل من الأرياف والمدن نحو المراكز الكبرى الحاشدة بالجيش والشرطة والثروات المنزوعة خلال عقود.
إنها ثورةٌ وليست تآمراً لأن الضرب بالمدافع لعدة مدن يلهبُ مدناً أخرى، وحشودُ المدن التي تندفع للاحتجاج لم تحدث بسبب عوامل ذاتية مؤقتة، ولم تلتهب في أمكنة من دون البلد بشكل تأزيمي بل عصفت بالساحات كلها.
لكن المغامرين والمذهبيين السياسيين المحافظين والمشتغلين بالأزرة الخارجية وأصحاب الوكالات لا يعرفون الفروقَ بين الثورة والعمل النخبوي، بين النضال الوطني والعمل الطائفي.
الثورة فعلٌ داخلي شعبي يمسلا بكهربائه كل الناس، فيفصلون مذاهبَهم وأزياءهم البلدية والقومية ويتحدون لانقاذ وطن من كارثة كبرى.
لهذا فإن جماعات الوكالات ومندوبي الدول الأجنبية يريدون تحويلَ أفعالهم إلى ثورة وتغيير من موقع الطوائف ولا يقدرون، ويضربون رؤوسهم في حصى الواقع العنيد، ومن هنا يهز فعل البسطاء في سوريا العالم بأسره، وتعجز صواريخ المتآمرين وبنادق الوسطاء أن تبدل واقعا ولم يستطع تجمعات الطوائف في لبنان بأحزابهم الطائفية أن يغيروا شارعاً من الشوارع، أو أن يحتشدوا من أجل إنقاذ بلدهم من المذابح والحروب الأهلية وحروب الحزب الواحد، وأن يكونوا خريطةً وطنية تذوبُ فيها كوارث التفرقة للعصور الوسطى.
الثورة ليست فعل مثقفين وسياسيين نخبويين والمتاجرين بالشعارات ومندوبي الدول الأخرى والمتطلعين للنفوذ والهيمنة، الثورةُ فعلٌ شعبي، يقوم به هؤلاء العامة الأبطال!
وعلى النقيض هذا ما فعلتهُ الطوائفُ السياسية وحصرتهم في زاويا ضيقة، وراحت تخنقهم وهم غير قادرين على نقدها والتنصل منها، وعندهم الكثير من الأموال والسلاح، ولديهم خرائط سياسية واسعة، لكن البسطاء العاديين في تونس وسوريا ومصر لم تكن لهم سوى وحدتهم.
من يحافظ على شعبه موحداً لا يخاف من الثورات، والمذهبيون السياسيون والدينيون المتعصبون الذين يعيشون على تفكيك الإسلام والمسيحية لا يستطيعون صنع ثورة، أو إبقاء خرائط بلدانهم بعيدة عن التفكك والانهيار.
وأن الأمور التاريخية في بدء سريانها، وإذا كانت كل ملاحم الشعوب العربية لم تنور الأذهان المحافظة المذهبية الناقعة في الماضي، فإن الإعصار مستمر، حتى يطيح بمرتكزات هذين التفريق والتمزيق للأمة العربية وللأمم الإسلامية، ويجعلها متقاربة متعاونة.
إيصال الناس إلى حافة الجوع وعمق الفقر للصرف على السلاح والصراعات السياسية الخارجية هذا ما يوصل إليه، وهذا ما شكل العاصفة المتجهة للعواصم المؤججة للصراعات بين أهل المنطقة وهي في إنطلاقها العنيف تؤدي إلى خسائر جسيمة للجميع لكن أصحاب الفيتو لا يتعلمون حتى تقتحم هذه العواصف بروجهم المشيدة.
.
مقالات أخرى...
- بين الوحدةِ والتفتتِ - (28 فبراير 2012)
- بين الثقافةِ والنواب - (27 يناير 2012)
- تجارةُ دلمون خطوةُ الخروجِ إلى العالم - (26 فبراير 2012)
- اليسارُ والتكويناتُ الاجتماعية الدينية - (25 فبراير 2012)
- شكلان للتناقض في العمل السياسي - (24 فبراير 2012)
- بعضُ مشكلاتِ الخليج الاقتصادية - (23 فبراير 2012)
- حلٌ توافقي - (22 فبراير 2012)
- الثورةُ السوريةُ والحضورُ الإيراني - (21 فبراير 2012)
- مستوياتُ الدينيين والتحولاتُ السياسيةِ - (20 فبراير 2012)