تروتسكي والثورة الدائمة (١-٢)
 تاريخ النشر : الخميس ١ مارس ٢٠١٢
عبدالله خليفة
لا يمكن قراءة دراما القرن العشرين من دون شخصيات كبيرة مثل لينين وتروتسكي وستالين وغيرهم، هؤلاء الذين انشغلوا بالمصير البشري، وأرادوا تغييرَ الأنظمة الاستغلالية، وإيجاد مستقبل جديد للإنسان.
ومنذ شبابه الأول انخرط تروتسكي في النشاط السياسي والأحزاب والثورات والسجون، وكان من مؤسسي الثورة الروسية سنة ١٩١٧ ومن بناة رأسمالية الدولة ومن ضحاياها كذلك.
هل هو المزاجُ الحاد الذي شكّل شخصيةَ تروتسكي أم حالات التقلب الدائمة أم التركيزُ على ثيمةٍ نظرية والتمسك بها وهي مُحاطة بتحليلاتٍ قاصرة وخاطئة؟
يجمعُ تروتسكي بين الرومانسية والثورة:
(ولكن مهما تكن ظروف موتي، فإني سوف أموت وانا متمسك بإيمان لا يتزعزع بالغد الشيوعي. إن هذا الإيمان بالإنسان وبغده يزوّدني، حتى في هذا الوقت، بقدرة على المقاومة لا يستطيع أي دين أن يوفرها إني أستطيع أن أرى شريطا من العشب الأخضر على حافة الجدار، والسماء الزرقاء الصافية فوقه، والشمس في كل مكان. إن الحياة لجميلة فلتطهرها الأجيال القادمة من كل شرّ واضطهاد وعنف، ولتتمتع بها إلى أقصى حد.
لغةُ التطهرِ وتحويل السياسة إلى رؤيةٍ أعلى من الدين، ومجيء القيامة القادمة الجميلة هي تعبيرٌ عن الحماس الداخلي المتوهج، وفرض الذات الفياضة المشاعر على الواقع المقروء بذاتٍ مركزية متضخمة.
إن صراعات القوى السياسية الروسية مهمة لمعرفة النسق الداخلي المتصاعد لرؤيةِ تروتسكي، ورؤية الايديولوجيات المختلفة المعبرة في بداية القرن العشرين سواءً في الغرب أم في روسيا.
البلشفية والمنشفية هما الحالتان السياستان اللتان استقل عنهما تروتسكي، فالحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي منقسمٌ حول طرق التطور السياسية، فهل يمشي في الطريق الغربي الديمقراطي الرأسمالي الحداثي أم يؤسس الطريق الاشتراكي؟
في البداية لم تكن الأسئلةُ والإجاباتُ والآراء واضحة، فالميراثُ الماركسي نفسهُ غامض، فهل هو رؤية ديمقراطية تتغلغلُ في المجتمعات وتغيرها عبر الأدوات الموجودة من دون قفزات، أم تؤسس دولة شمولية تفرض التحول (الاشتراكي) المفترض؟ وما هو حجم هذا التحول وهل يبقى في أطره القومية أم يتحول لتغيير عالمي؟
الفئاتُ البرجوازيةُ الصغيرة الروسية بخيارِها الاشتراكي عبرتْ عن طموحاتِها للاستيلاءِ على سلطةِ نظامٍ إقطاعي يتطورُ رأسمالياً، سواءً من خلال نمو تدريجي تحديثي ديمقراطي أم عبر الاستيلاء بالقوة وفرض تطور صارم من جهاز الدولة الذي سوف تقف فوقه.
إن هذه الفئات تصورتْ نفسَها معبرةً عن العمال، فهو حزب عمالي، أي يمثل العمال قواعده المفترضة، وهي القائدة بتياراتها المختلفة.
إذاً الرؤية النخبوية أتاحت لها أن تفرضَ الخيارَ الاشتراكي بشكل برامجي مسبق، فهي تعيش حالات دكتاتورية عبر إنزال نفوذها وشخوصها، وتتباين هي هنا عن المسيحية التي أرادت أن تغلغلَ نموذجَها الحلمي عبر التسامح والرحمة فما استطاعت، لكون المسيحية هي كذلك اندمجت في أنظمةٍ شموليةٍ وغدت جزءًا من بناها الاجتماعية.
فتلك الفئات الوسطى الصغيرة المثقفة السياسية الروسية في تناقضها بين التطور الاشتراكي الديمقراطي السلمي وبين التطور العنيف، هي كلها تعيشُ رؤى نخبوية، لكن ثمة فرقا كبيرا بين نمو الفكرة بالجدل والديمقراطية والاختلاف، وبين نموها بالقوة، وهذا يؤدي لأن يكون الحزب المنشفي مؤيداً للتعددية ونمو الديمقراطية فيما يعبرُ الحزبُ البلشفي عن القوةِ والدكتاتورية الحادة.
ولم تكن روسيا قادرةً على النمو عبر الديمقراطية، فميراثُها الإقطاعي الضخم والتخلف والأمية لم تُغيرْ بشكلٍ تدريجي خلال العقود السابقة، وقد تفجرتْ في لحظة الحرب العالمية الأولى حيث انفلتت هذه التناقضات دفعة واحدة على مسرح التاريخ الدامي وطلبتْ حلولاً سريعة.
تغدو رؤيةُ تروتسكي المضادةِ لكلا التوجهين البلشفي والمنشفي، نابعةً من قبول كلتا وجهتي النظر بالاشتراكية(الديمقراطية).
فعبرَ تروتسكي لن تكونَ الثورةُ سوى عنف وقوى(شعبية) متصاعدة تحطمُ النظامَ الروسي. فتغدو الديمقراطية هنا غريبةً بالنسبةِ إليه، ولكن ميراثَ الحركةِ السياسية الاشتراكية هذه يرتكز على الديمقراطية التي تعني تطوير النظام القيصري نحو الاشتراكية الديمقراطية.
لم يضعْ التياران المنقسمان هذه الاشتراكيةَ محلَ النقد والتحليل المعمق، ولم يريا نظراتهما كتعبيرٍ عن فئاتٍ برجوازية صغيرة تريد فرض نظام من فوق، فيما القوى الغربية الاشتراكية المماثلة غير قادرة على وضع الاشتراكية موضع التطبيق.
كان لينين أكثر مقاربةً إيديولوجية نفعيةً لهذا الخيار، فرؤيتُهُ لبناءِ الحزب البلشفي بطريقةٍ قوية دكتاتورية، كان يلغي هذه الديمقراطية عبر سنواتٍ متدرجة من عمله، ويؤدلج الوضع الروسي الذي كان يسير نحو الرأسمالية كما في جداله مع (الشعبيين) الذين رفضوا وجودَ تطورٍ رأسمالي حسب تصاعد دكتاتوريته الشخصية الحزبية العامة المتداخلة، وما كان يقيمهُ الحزبُ الآخر(المنشفي) من عملٍ ديمقراطي متدرج لم يكن يتماشى مع الظروف الشديدة التخلف، ومع ضعفِ القوى الليبرالية في النضال من أجل الديمقراطية، لهذا كان الحزب القوي هو الذي يصعد. والحزبُ القويلا يضمُ حوله بعض العمال ثم يوسعُ حضورَه، ويصبحُ آلةً كآلةِ الدولة.
اقترابُ تروتسكي من الحزب البلشفي في الحرب العالمية الأولى وانضمامه إليه يعودُ لكون هذا الحزب قد تصاعدت نزعة الدكتاتورية (الثورية) العنيفة فيه، وغدا معبراً كذلك عن ذات تروتسكي الذي لم يستطعْ إيجاد مؤيدين حوله، بسبب أن أفكاره لم تكن مجسَّدةً في شكلٍ تنظيمي مؤثر.
في هذه الفترة راحت أفكارُ تروتسكي حول الثورة الدائمة تتضح وتتبلور، ويكون جزءًا من البلاشفة
.
مقالات أخرى...
- الثورةُ السوريةُ والمحتوى الشعبي - (29 فبراير 2012)
- بين الوحدةِ والتفتتِ - (28 فبراير 2012)
- بين الثقافةِ والنواب - (27 يناير 2012)
- تجارةُ دلمون خطوةُ الخروجِ إلى العالم - (26 فبراير 2012)
- اليسارُ والتكويناتُ الاجتماعية الدينية - (25 فبراير 2012)
- شكلان للتناقض في العمل السياسي - (24 فبراير 2012)
- بعضُ مشكلاتِ الخليج الاقتصادية - (23 فبراير 2012)
- حلٌ توافقي - (22 فبراير 2012)
- الثورةُ السوريةُ والحضورُ الإيراني - (21 فبراير 2012)