عن الوساخة والنظافة الدولية
 تاريخ النشر : الاثنين ٥ مارس ٢٠١٢
جعفر عباس
في عددها للأسبوع الأخير من إبريل المنصرم، جعلت مجلة نيوزويك الأمريكية من الفساد في أوروبا موضوعا للغلاف، وحوى الموضوع قائمة بالدول التي ينخر فيها الفساد بمعنى تفشي الرشوة والاختلاس ونهب المال العام، تحت تصنيفات أربعة هي: دول «كاملة النظافة» وتشمل فنلندا والدنمارك وسنغافورة والسويد، ودول «نظيفة»، وتشمل النرويج وسويسرا وبريطانيا والولايات المتحدة، ودول نُص نص وهي المانيا واسبانيا وفرنسا وبلجيكا وبتسوانا ودول «وسخة» أو «ديرتي» كما جاء في المجلة وهي ايطاليا وناميبيا وتونس واليونان ودول قذرة او «فِلثي» كما قالت نيوزويك وتشمل روسيا وتنزانيا واوكرانيا ونيجيريا وفي ذيل القائمة تأتي بنجلاديش، ووجود دولة عربية واحدة ضمن قائمة الدول التي يتفشى فيها الفساد المالي والإداري لا يعني أن بقية الدول براء من تلك التهمة بل قد يعني انه من فرط ان الفساد فيها مؤسسي ويشكل عماد وأساس التعامل فان مواطنيها لا يرون فيه ما يستوجب الشكوى او الململة! وعموما فإن من يكون محاطا بالزبالة تكون مقاييس النظافة عنده مختلة.
في مطار عربي كنا في حالة عبور «ترانزيت»، ولكن موظف الجمرك كاد ان يمنعنا من مجرد الانتظار في المطار، لأن ولدي كان يحمل ١٢ إصبع بطارية جافة خاصة بجهاز ووكمان الصغير (هل تذكرون ذلك المسجل الصغير ابو سماعات الذي صرعه الآيبود؟) وظل الواقفون خلفنا يتململون بينما كان صاحبنا يوجه إلينا عشرات الأسئلة عن مبرر حمل الولد لذلك العدد «الهائل» من البطاريات التي لم يكن سعرها يزيد على دولارين وانتهى الفيلم الهندي بأن قام بمصادرة بطاريتين، فقدمت إليه ثلاث بطاريات أخريات قائلا: معك حق فكثرة البطاريات تفسد الأخلاق فخذ هذه أيضا، فتناولها شاكرا وتحول المحقق البوليسي إلى كائن مهذب يبتسم ويقهقه في بلاهة بل استدعى أحد العمال ليحمل عني حقيبة يدي.
وفي مطار عربي آخر فوجئت بأن الطائرة المتجهة إلى الخرطوم لا تسمح للراكب بأكثر من حقيبة كبيرة واحدة، وكانت معي ثلاث حقائب اثنتان منها تخصان صديقا جاء معي إلى المطار لسداد كلفة تحميلهما، فقرر صاحبي العودة بحقيبتيه وفجأة جاءنا شاب يلبس شارة المطار وقال لنا: لا بأس ضعوا الأمتعة في الميزان فجاء وزنها نحو ١٥٠ كيلوجراما، وشرع صاحبي في فتح محفظة نقوده لسداد قيمة نحو ١٢٥ كيلوجراما، ولكن الشاب ابن الناس قال لنا اننا لن ندفع شيئا على الحقائب الثلاثة لأننا ازوال، والأزوال طيبون فشكرته شعرا ونثرا وزجلا، ولكن صديقي قال إن الشاب المطاري لم يقم بكل ذلك حبا في بني السودان وقرر ان يمنحه بعض المال فغضبت من سوء ظنه بالرجل وتوجهت نحو حاجز الجوازات و.. «عينك ما تشوف إلا النور».. فلفلوا حقيبة يدي وجيوبي الأنفية وقالوا انهم يشكون في ان جوازي مزور، ولمحت الشاب الشهم يراقب ما يحدث لي وكان لدهشتي مبتسما، فاستنجدت به، فأدرك عندئذ أنني غبي وقال لي صراحة: خلي عندك دم وأظهر تقديرك للخدمات التي قدمت لك وإعفائك من كلفة الأمتعة الزائدة!! أنا جعفر عباس الذي لا يبوس ولا ينباس ولا يرتشي ولا يرتاش ادفع رشوة؟ قلت له بصوت واضح جهوري: أعد أمتعتي إلى الميزان يا جبان او أعد إلي جوازي لأنني لن ادفع رشوة!! وسمع صياحي حتى قباطنة الطائرات التي كانت تحلق حول المطار، هنا حدثت المعجزة وأعيد الجواز إلي مع الاعتذار!
هذا فقط عن فساد الصغار أما فساد الكبار فمسألة لا تحتمل «الهزار».
jafabbas١٩@gmail.com
.
مقالات أخرى...
- عن ثقافة الهشك بشك! - (4 مارس 2012)
- عن الجهالة الأممية! - (3 مارس 2012)
- عمالة مترهلة وكمبيوترات متعطلة - (2 مارس 2012)
- عن الأيتام والجرسونات - (1 مارس 2012)
- عدم الجليد «نعمة» - (29 فبراير 2012)
- حب إيه اللي أنت..... - (23 فبراير 2012)
- وللثراء ثمن قد يكون فادحاً - (22 فبراير 2012)
- الشلوت والإبرة والبطة - (21 فبراير 2012)
- دنيا عجيبة - (20 فبراير 2012)