الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤٠٩ - الأربعاء ١٤ مارس ٢٠١٢ م، الموافق ٢١ ربيع الثاني ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

يوميات سياسية


من أين تأتي الوحشية الأمريكية؟





تحدثت في مقال الأمس عن المجزرة الوحشية التي ارتكبها جندي أمريكي في أفغانستان، وقتل فيها بدم بارد ١٦ اغلبهم من النساء والأطفال، واوضحت كيف انها ليست جريمة فردية منعزلة كما يزعم الأمريكيون دوما.

تساءلنا: من أين تأتي كل هذه الوحشية؟.. ما هي الأسباب التي يمكن ان تفسر حقيقة ان مثل هذه الجرائم البشعة هي نمط متكرر في سلوك الجيش الأمريكي في دول مثل العراق وأفغانستان وغيرهما؟

بداية، هناك جانب تاريخي له اهمية قصوى. نعني ان جذور هذه الوحشية تعود في جانب اساسي منها الى خبرة التاريخ الأمريكي نفسه، والعقيدة العسكرية التي ترسخت عبر هذا التاريخ.

وقد سبق لي ان ناقشت هذه المسألة تفصيلا قبل سنوات في دراسة مهمة عنوانها «موجز تاريخ الهمجية الأمريكية».

ومؤخرا، ناقش اثنان من المحللين والكتاب الأمريكيين هذه القضية في دراسة مهمة. الكاتبان هما بيتر ديل سكوت وروبرت باري، والدراسة عنوانها «الجانب الأشد إظلاما في تاريخ الولايات المتحدة».

الفكرة الجوهرية التي تطرحها الدراسة هي ان كثيرا من الأمريكيين يعتبرون ان أمريكا وجنودها، هم مقاتلون من اجل الحرية ومن اجل نشر الديمقراطية في العالم كله. وعندما يرتكب الجنود الأمريكيون اعمال قتل وتدمير وجرائم وحشية يتم النظر إليها باعتبارها «خطأ» غير مقصود، و«انحراف» عن السياق العام.

والدراسة تثبت بالتفصيل الشديد ان هذا الاعتقاد الأمريكي العام غير صحيح. فخبرة التاريخ الأمريكي تقول انه منذ الأيام الأولى للجمهورية الأمريكية تعتبر هذه الوحشية عقيدة راسخة. وهذا هو الجانب المظلم في تاريخ أمريكا.

وفي الخلاصة تقول الدراسة: «الحقيقة المريرة هي انه ولأكثر من قرنين، فان هذه الممارسات الدموية الوحشية، تعتبر دوما في الوعي والعقيدة العسكرية الأمريكية «ضرورة» من اجل الدفاع عن المصالح الأمريكية المفترضة».

بالإضافة إلى هذا الجانب التاريخي المهم، هناك بالطبع عوامل كثيرة أخرى تفسر هذه الوحشية الأمريكية.

في مقدمة هذه العوامل على الإطلاق ان الإدارة الأمريكية والقيادة العسكرية الأمريكية تشجع مباشرة على ارتكاب هذه الجرائم.

نعني ان الاحتلال ابتداء، والاستراتيجية التي تقف وراءه، والأفكار التي تبرره، لا بد ان يفرز بالضرورة مثل هذه الجرائم الوحشية.

ضباط وجنود الاحتلال يتم تدريبهم وتربيتهم على الاعتقاد الراسخ بأنهم ذاهبون إلى بلاد معادية، أهلها متخلفون ومتطرفون وارهابيون .

بعبارة أخرى، في صلب قناعات وعقيدة هؤلاء الضباط والجنود التي يتربون عليها، ان العراقيين او الأفغان لا يرتقون إلى مستوى البشر أصلا. ومن ثم، تصبح أي مذابح او جرائم وحشية بالنسبة إلى هؤلاء امرا عاديا ومبررا ومقبولا، ومن دون أي احساس بالذنب.

ولا ينبغي ان ننسى ان بعضا من افظع هذه الجرائم، مثل جريمة أبوغريب مثلا، تم ارتكابها بأوامر عليا مباشرة من أعلى المستويات القيادية السياسية والعسكرية.

والقيادة الأمريكية السياسية والعسكرية تشجع مباشرة على ارتكاب هذه الجرائم حين لا تحاسب مرتكبيها وتلتمس لهم في كل مرة الأعذار والتبريرات.

وفي الغالبية الساحقة من هذه الجرائم الوحشية، لم يتم التحقيق فيها اصلا، واذا جرى تحقيق شكلي، عادة ما يتم تبرئة مرتكبيها، ويفلتوا من أي عقاب او حساب.

يكفي هنا ان نشير إلى ما حدث مع مجزرة حديثة في العراق التي ارتكبها جنود الاحتلال الأمريكي في نوفمبر عام .٢٠٠٥ في تلك المجزرة دخل الجنود الأمريكيون منازل عراقيين منزلا بعد منزل، وقتلوا ٢٤ عراقيا اغلبهم من النساء والأطفال. حين جرت «محاكمة» هؤلاء المجرمين، برأت المحكمة الأمريكية سبعة منهم، والثامن حكم عليه بالسجن ثلاثة شهور، ولم ينفذ العقوبة.

ما الذي عناه هذا الحكم؟.. أي رسالة وجهها إلى الجنود الأمريكيين في العراق أو في أفغانستان؟.. معناه ببساطة ان القيادة الأمريكية، والقضاة الأمريكيون، يقولون لهؤلاء الجنود : حياة هؤلاء العراقيين أو الأفغان لا تساوي شيئا.. امضوا قدما وارتكبوا ما تشاؤون من مجازر، فلن تحاسبوا وستفلتون من أي عقاب.

لنلاحظ ان المجزرة الأخيرة التي ارتكبها الجندي الأمريكي في أفغانستان، هي نسخة طبق الأصل من مجزرة حديثة في العراق.

وبالإضافة إلى ما سبق، فان مجمل الخطاب السياسي الأمريكي يحرض مباشرة على ارتكاب هذه الجرائم الوحشية ومن دون تردد.

ما الذي يمكن ان يفكر فيه الجنود الأمريكيون مثلا حين يسمعون ساسة كبارا مرشحين للرئاسة يقولون علنا ان شعوبا بأسرها مثل الشعب الفلسطيني أو الإيراني هي شعوب تستحق الإبادة؟

وبالطبع، لا يمكن اغفال التأثير المدمر الذي لعبه الإعلام الأمريكي عبر السنوات الطويلة الماضية بحملاته الهمجية على العرب والمسلمين وتصويرهم في صورة الإرهابيين .

والنتيجة النهائية التي يمكن ان نخلص إليها، ان أمريكا بوحشيتها وهمجيتها المتأصلة هذه، ليست مؤهلة لا لقيادة العالم، ولا حتى لأن تتحدث عن حرية وديمقراطية وحقوق إنسان.

العالم سيكون أفضل بكثير جدا من دون أمريكا.



.

نسخة للطباعة

أين حق الأغلبية الصامتة؟

أتواجد هذا الأسبوع في جنيف لحضور دورة للأمم المتحدة عن حقوق الإنسان. عقد وفدنا لقاءات عدة مع مسئولين كبار. ... [المزيد]

الأعداد السابقة