بكت مصر كلها البابا شنودة الثالث الذي انتقل إلى جوار ربه أمس الأول.. صلى عليه الجميع المسلمون والمسيحيون.. أصابتهم جميعا صدمة مدوية بسماع نبأ فقده.. شعروا كلهم بأن مصر فقدت صمام أمانها.. ورمانة الميزان على أرضها.

جلس على كرسي البابوية أربعين عاما.. ولولاه لاشتعلت مصر نارا لا تنطفئ جذوتها أبدا.. عرفه المصريون حامي الوحدة الوطنية ورمزها.. كان تخصصه في دراسته بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة فيما بعد) التاريخ الإسلامي والفرعوني.. كان الصديق الصدوق للأزهر الشريف وكل مشايخه.. وكان مؤسسا رئيسيا لبيت العائلة الذي يمثل حمامة السلام بين جناحي الأم المصرية.

من أقواله الخالدة: «لسنا - مسلمون ومسيحيون - نعيش في مصر.. ولكن مصر مسلمين ومسيحيين تعيش فينا».

كان سعيه الدائم هو تبسيط الدين المسيحي للمسلمين، ونقل تعاليم الإسلام إلى المسيحيين.. وكان شعاره رفض أي تدخل خارجي في شئون مسيحيي مصر.

كان يحلو له أن يردد أنا لست مسيحيا مصريا.. بل مصري مسيحي.. ولست مسيحيا عربيا.. بل عربي مسيحي.

مواقفه العربية خالدة.. بعضها كلفه راحته وهدد مستقبله.. وجهت إليه دعوة لزيارة القدس فجاء رده: لن أزورها إلا بعد أن تتحرر كاملة.. وبرفقة شيخ الأزهر الشريف.. أعلن رفضه لاتفاقية كامب ديفيد وزيارة الرئيس أنور السادات للقدس.. وتضامنت معه في موقفه كل كنائس مصر.. فهال السادات ذلك وذهب إلى مجلس الشعب مخاطبا شعب مصر ومعلنا عزل البابا على مسمع ومرأى من العالم.. واعتكف البابا شنودة في بيته بضع سنوات حتى كانت لحظة اغتيال السادات.. وعاد البابا إلى كرسي البابوية أشد شموخا وتمسكا بعروبته وبالوحدة الوطنية.

كان البابا شنودة ظاهرة استثنائية على أرض مصر وفي الشرق الأوسط كله وشمال إفريقيا.. وكان موضع احترام وتبجيل من كل الدنيا.. وكان يفهم في تعاليم الإسلام كمسلم فقيه.. ويتحدث بالآيات القرآنية.. ونجح في إيجاد فهم مشترك بين الديانتين الإسلام والمسيحية من أجل مصر.

وكان موضع احترام وتقدير هائلين من العالم أجمع، ذلك لكونه الأصدق والأنفع في مجال الوحدة الوطنية بين جناحي شعب مصر.. وإذا زار أي بلد لا بد أن يجد رؤساء الحكومات والملوك في مقدمة مستقبليه.

وأبرز ما كان يميزه هو شدة تواضعه وواسع علمه.

يضع المصريون جميعا الآن - ومن بعده - أيديهم على قلوبهم.. فقد غاب حامي حمى وحدتهم الوطنية.. ترتعد قلوب الجميع متسائلين: من سيأتي من بعده؟.. وكيف سيكون؟.. دعاؤنا أن يعوضنا الله عنه خيرا.

وليست مصر وحدها هي التي في حاجة إلى البابا شنودة.. أو من يملأ مكانه وقامته العالية.. الدنيا كلها في حاجة إلى البابا شنودة لتصان وحدة شعوبها وتلتئم صفوفها.. وتأمن شرور الطامعين فيها وهم كثيرون!

وستبقى المسيرة العطرة للبابا شنودة تنشر أريجها في كل الدنيا ليكشف زيف أعداء الوحدة الوطنية في كل زمان ومكان.. ويتم تعرية أولئك الذين يفرطون في كرامة أوطانهم.. ويبقون في كل لحظة على أتم الاستعداد ليبيعوا وطنهم رخيصا لأعداء الوطن من خارجه ومن داخله.. وبأبخس الأثمان!

نجح البابا شنودة في جعل مصر تذوب في مشاعر وضمائر كل المصريين.. وجعل المصريين يذوبون في مصر مكونا واحدا.. بينما غيره يجدون كامل سلواهم ونجاحهم في تمزيق وطنهم وتقسيمه واختطافه.. وبيعه لأعدائه.. لقد نصبوا أنفسهم زعماء وهميين حتى مسخت شخصياتهم وهوياتهم مهما طالت لحاهم.

نجح البابا شنودة في جعل أتباع الديانتين الرئيسيتين على أرض مصر يذوبون في دين واحد وكيان واحد.. بينما يجد غيره نجاحهم في التفريق والتباعد بين أبناء الدين الواحد.