الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤٦١ - السبت ٥ مايو ٢٠١٢ م، الموافق ١٤ جمادى الآخرة ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

الثقافي


قصة قصيرة





ترجمة: مهدي عبدالله

أنا لا اهتم كثيرا بالمشاهير ولم يكن لديّ الصبر ابدا مع الشغف الذي يبتلي الكثيرين جدا لمصافحة الاشخاص العظماء على هذه الارض. عندما يقترحون عليّ مقابلة شخص مميز عن زملائه بمنزلته او مكاسبه ابحث عن عذر مهذب ربما يجعلني اتجنب هذا الشرف. وحينما اقترح صديقي دييجو تور أن أعطي مقدمة لسانتا آنا اعتذرت لكن في تلك المرة كان الاعتذار الذي قدمته صادقا فسانتا آنا لم يكن فقط شاعرا عظيما بل ايضا شخصا رومانسيا وكان سيسرني ان أرى في عجزه رجلا كانت مغامراته في اسبانيا على الاقل أسطورية لكنني علمت انه كان مسنا ومريضا ولم اصدق اي شيء آخر غير الازعاج له لكي يلتقي غريبا وأجنبيا. كالستو دي سانتا آنا كان آخر سليل للمدرسة الكبيرة في عالم غير متعاطف للبيرونية وقاد وجودا بيرونيا وسرد حياته المليئة بالمخاطر في سلسلة من الاشعار التي صنعت له شهرة غير معروفة لمعاصريه. انا لست في محل الحكم بقيمتها حيث انني قرأتها للمرة الأولى حين كنت في الثالثة والعشرين ثم ابتهجت بها كثيرا ففيها رغبة وغرور بطولي وحيوية متعددة الالوان جعلتني انزلق عن قدمي وحتى هذا اليوم مازالت تلك الابيات متمازجة وذات ايقاعات مترددة بذكريات ساحرة عن شبابي، لا استطيع ان اقرأها من دون قلب يدق بشدة. انا اميل إلى التفكير ان كالستو دي سانتا آنا يستحق السمعة التي تمتع بها بين الشعوب المتكلمة بالاسبانية. في تلك الايام كانت اشعاره تتردد على شفاه جميع الشباب وكان اصدقائي يتحدثون لي باستمرار عن طرقه الوحشية وخطاباته الملتهبة حيث انه كان سياسيا علاوة على كونه شاعرا،كما يذكرون سخريته القاطعة وعلاقاته غير الشرعية. كان متمردا وأحيانا خارجا عن القانون ،جريئا ومغامرا لكن فوق كل ذلك كان عاشقا. نحن كلنا نعلم عن غرامه مع الممثلة الكبيرة او تلك المغنية الدينية، لقد قرأنا عنها حتى صرنا نعرفها عن ظهر قلب ألا وهي السونيتات المحترقة التي وصف بها حبه وعذابه وغضبه الشديد ونحن واعون بأن شابا اسبانيا وهو السليل الاكثر فخرا بعائلة البوربون قد خضع لمناشداته وارتدى القناع حينما توقف عن حبها. عندما اصبحت عائلة فيليب، اسلافها الملكيون، ضجرة من العشيقة دخلت المرأة ديرا حيث كان من غير المناسب ان تكون امرأة احبها الملك ينبغي ان يحبها شخص اخر ولم يكن كالستو دي سانتا آنا اعظم من اي ملك على وجه الارض. نحن استحسنا حركة المرأة الرومانسية وكانت محسوبة في حسناتها وإطراء لشاعرنا.

لكن كل هذا حدث قبل سنوات طويلة ولربع قرن من الزمن كان دون كالستو ينسحب بترفع من عالم ليس لديه شيء اخر ليقدمه له، عاش في عزلة في مدينته المحلية المسماة اسيجا. كان ذلك حينما اعلنت عن عزمي الذهاب إلى هناك حيث كنت اقضي اسبوعا او اسبوعين في سيفيل ليس بسببه لكن لكونها مدينة اندلسية صغيرة ساحرة بأشياء مرتبطة معها تحببني اليها وهذا ما دعا دييغو إلى عرض هذه المقدمة علي.لقد بدا أن دون كالستو سمح للشبان ذوي الرسائل ان يزوروه بين حين واخر وفي بعض الاحيان يتحدث اليهم بالنار التي كهربت مستمعيه في الايام الكبيرة لمجده. سألت :

- كيف يبدو الان ؟

- رائعا.

- هل لديك صورة له ؟

-اتمنى لو كان عندي. لقد رفض ان يواجه الكاميرا منذ كان في الخامسة والثلاثين. انه يقول إنه لا يرغب ان تعرفه الاجيال القادمة في صورة غير صورة الشاب.

اعترف بأنني وجدت هذا الاقتراح ليس مؤثرا قليلا. اعرف انه في ايام رجولته المبكرة كان جميلا بصورة غير عادية وان السونيتات المتحركة التي كتبها حينما اصبح واعيا بأن الشباب تركه إلى الأبد تظهر بألم مرير وساخر بأنه يجب عليه مشاهدة مرور تلك المناظر التي كان تثير الاعجاب بشكل رائع.

لكنني رفضت عرض صديقي فقد كنت مكتفيا بقراءة أشعاره التي أعرفها جيدا مرة اخرى وبالنسبة إلى البقية فضلت ان أطوف في شوارع اسيجا الصامتة المكنوسة بالشمس في حرية. ولذلك شعرت بشيء من الرعب لدى وصولي في مساء تلك الليلة حينما تسلمت رسالة من الرجل العظيم نفسه. دييجو تور كان قد كتب له عن زيارتي وقال انه سيكون شرف كبير له اذا ما قمت بزيارته في الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم التالي. في تلك الاُثناء لم يكن هناك شيء افعله سوى أن أحضر شخصيا إلى منزله في تلك الساعة المعينة.

كان فندقي يقع في الساحة العامة وفي ذلك الصباح الربيعي كانت الساحة مفعمة بالحيوية لكن ما ان تركتها حتى مشيت في مدينة كبيرة مقفرة. الشوارع المتعرجة البيضاء كانت فارغة عدا امرأة متشحة بالسواد بين حين وآخر تعود بخطوات مقاسه من صلواتها. اسيجا هي مدينة كنائس ونادرا ما ترى واجهة مبنى مهدمة او برجا بنت عليه اللقالق اعشاشها. مرة واحدة توقفت لرؤية سلسلة من الحمير الصغيرة تعبر ،أغطيتها الحمراء كانت باهتة ولا تحمل ما في داخل سلالها. لكن اسيجا كانت مكانا ذا شأن في يومها والكثير من هذه البيوت البيضاء بها بوابات حجرية تعتليها طبقات فخمة من الأذرع حيث انه لهذه البقعة البعيدة تدفقت خيرات العالم الجديد والمغامرون الذين جمعوا الثروة في بلدان أمريكا عاشوا سنواتهم الأخيرة هنا. لقد سكن دون كالستو في واحد من هذه البيوت وبينما انا اقف على الرصيف بعد دق الجرس شعرت بالسرور بالتفكير بأنه يعيش بهذا النمط المناسب. ٠كانت هناك فخامة مهلهلة حول البوابة الضخمة التي لاءمت انطباعي عن الشاعر اللامع. رغم اني سمعت الجرس يرن خلال البيت الا أنه لم يجب أحد.ئ



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة